[ ص: 90 ] [ ] ( و ) الثانية : معرفة الصحبة . ( تعرف الصحبة ) إما ( باشتهار ) قاصر عن التواتر ، وهو الاستفاضة على رأي بها ; بم تعرف الصحبة ؟ ، كعكاشة بن محصن وضمام بن ثعلبة وغيرهما ، ( او تواتر ) بها ; المعني بقوله تعالى : ( كأبي بكر الصديق إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) [ التوبة : 40 ] ، وسائر العشرة في خلق ، ( أو قول صاحب ) آخر معلوم الصحبة ; إما بالتصريح بها ، كأن يجيء عنه أن فلانا له صحبة مثلا أو نحوه ; كقوله : كنت أنا وفلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو دخلنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بشرط أن يعرف إسلام المذكور في تلك الحالة . وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين على الراجح كما سيأتي . وإلى ما عدا الأخير أشار من الحنفية مع تمريض ثالثها ، فقال : لا يجوز عندنا الإخبار عن أحد بأنه صحابي إلا بعد وقوع العلم به ; إما اضطرارا ، يعني الناشئ عن التواتر ، أو اكتسابا ، يعني النظري الناشئ عن الشهرة ونحوها . قال : وقيل : يجوز أن يخبر بذلك إذا أخبر به الصحابي ، يعني كما هو الصحيح . أبو عبد الله الصيمري
( ولو قد ادعاها ) ; أي : الصحبة بنفسه ، ( وهو ) قبل دعواه إياها ( عدل قبلا ) قوله ; يعني : على المعتمد ، سواء التصريح : كأنا صحابي ، أو ما يقوم مقامه : كسمعت ونحوها ; لأن وازع العدل يمنعه من الكذب . هكذا أطلقه ومن تبعه ; ابن الصلاح كالنووي ، وهو متابع للخطيب في ( الكفاية ) ; فإنه قال : وقد يحكم في الظاهر بأنه صحابي بقوله : صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثر لقائي له ، إذا كان ثقة أمينا مقبول القول لموضع عدالته وقبول خبره ، كما يعمل بروايته ، وإن لم يقطع بذلك ; يعني في الصورتين . واشتراط العدالة قبل لا بد منه ; لأن قوله قبل أن تثبت عدالته : أنا [ ص: 91 ] صحابي ، أو ما يقوم مقام ذلك ، يلزم من قوله إثبات عدالته ; لأن الصحابة كلهم عدول ، فيصير بمنزلة قول القائل : أنا عدل ، وذلك لا يقبل . ولكن في كلام القاضي تقييد ذلك أيضا بما إذا لم يرد عن الصحابة رد قوله . وفيه نظر ; إذ المثبت مقدم على النافي ، ولو فرض كون النفي لمحصور فربما كان قادحا في العدالة . وكذا قيده هو أبي بكر بن الطيب الباقلاني بثبوت معاصرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وعبارة والآمدي : فلو قال من عاصره : أنا صحابي ، مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه . ونحوه قول الآمدي : إذا عرفت عدالته قبل منه أنه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه مع إمكان ذلك منه ; لأن الذي يدعيه دعوى لا أمارة معها . ولذا قال المصنف : ولا بد من تقييد ما أطلق من ذلك بأن يكون ادعاؤه لذلك يقتضيه الظاهر ، أما لو ادعاه بعد مضي مائة سنة من حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - ; فإنه لا يقبل ، وإن كانت قد ثبتت عدالته قبل ذلك ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : ( أبي بكر الصيرفي ) ، يريد انخرام ذلك القرن . قال ذلك - صلى الله عليه وسلم - في سنة وفاته ، قال : وهو واضح جلي . أرأيتكم ليلتكم هذه ; فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى أحد ممن على ظهر الأرض
ونحوه قول شيخنا : وأما الشرط الثاني ، وهو المعاصرة ، فيعتبر بمضي مائة سنة وعشر سنين من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره لأصحابه : ( ) رواه أرأيتكم ليلتكم هذه ; فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد البخاري ومسلم من حديث . زاد ابن عمر مسلم من حديث جابر أن ذلك كان قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بشهر ، ولفظه : ( سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يموت بشهر : ( ) . قال : ولهذه النكتة لم يصدق الأئمة أحدا ادعى الصحبة بعد [ ص: 92 ] الغاية المذكورة . وقد ادعاها جماعة فكذبوا ، وكان آخرهم أقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ ; لأن الظاهر كذبهم في دعواهم . انتهى . رتن الهندي
ولا شك أن دعوى ما لا يمكن تقدح في العدالة ، فاشتراطها يغني عن ذلك ، وإن جعل بعض المتأخرين محله مع العدالة إذا تلقي بالقبول وحفته قرائن ، ولم يقم دليل على رده .
وفي المسألة قولان آخران :
أحدهما : أنها لا تثبت صحبته بقوله ; لما في ذلك من دعواه رتبة يثبتها لنفسه . وهو ظاهر كلام أبى الحسن بن القطان ; فإنه قال : ومن يدعي صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منه حتى نعلم صحبته ، فإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره . واقتصار ابن السمعاني حيث قال : تعلم الصحبة إما بطريق قطعي ، وهو الخبر المتواتر ، أو ظني ، وهو خبر الثقة ، قد يشعر به .
وقواه بعض المتأخرين قال : فإن الشخص لو قال : أنا عدل ، لم يقبل ; لدعواه لنفسه مرتبة ، فكيف إذا ادعى الصحبة التي هي فوق العدالة ؟ ! وأبداه احتمالا ; حيث قال : لو قال المعاصر العدل : أنا صحابي ، احتمل الخلاف ، يعني قبولا ومنعا ، فكأنه لم يقف على النقل في الطرفين . ابن الحاجب
ثانيهما : التفصيل بين مدعي الصحبة اليسيرة فيقبل ; لأنها مما يتعذر إثباتها بالنقل ; إذ ربما لا يحضره حالة اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو رؤيته له أحد . أو الطويلة وكثرة التردد في السفر والحضر ، فلا ; لأن مثل ذلك يشاهد وينقل ويشتهر فلا يثبت بقوله .
[ ص: 93 ] على أن قد جزم بالقبول من غير شرط ، بناء على أن الظاهر سلامته من الجرح . وقوي ذلك بتصرف أئمة الحديث في تخريجهم أحاديث هذا الضرب في مسانيدهم . قال شيخنا : ولا ريب في انحطاط رتبة من هذا سبيله عمن مضى . قال : ومن صور هذا الضرب أن يقول التابعي : أخبرني فلان مثلا أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ، سواء سماه أم لا ; كقول ابن عبد البر فيما رواه الزهري في فتح البخاري مكة من صحيحه : أخبرني سنين أبو جميلة ، وزعم أنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه عام الفتح . أما إذا قال : أخبرني رجل مثلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكذا ، يعني بالعنعنة ، فثبوت الصحبة بذلك بعيد ; لاحتمال الإرسال . ويحتمل التفرقة بين أن يكون القائل من كبار التابعين ، فيترجح القبول ، أو صغارهم فيترجح الرد . ومع ذلك فلم يتوقف من صنف في الصحابة عن إخراج من هذا سبيله في كتبهم .
نعم ، لو أخبر عنه عدل من التابعين أو تابعيهم أنه صحابي ، قال بعض شراح ( اللمع ) : لا أعرف فيه نقلا ، قال : والذي يقتضيه القياس فيه أنه لا يقبل ذلك ، كما لا يقبل مراسيله ; لأن تلك قضية لم يحضرها . قال شيخنا : والراجح قبوله ; بناء على الراجح من قبول التزكية من واحد . وكذا مال إليه الزركشي فقال : والظاهر قبوله ; لأنه لا يقول ذلك إلا بعد العلم به ; إما اضطرارا أو اكتسابا . وإليه يشير كلام ابن السمعاني السابق .
إذا علم هذا فقد أفاد شيخنا في مقدمة الإصابة له ضابطا يستفاد من معرفته جمع كثير يكتفى فيهم بوصف يتضمن أنهم صحابة ، وهو مأخوذ من ثلاثة آثار : أحدها : أنهم كانوا لا يؤمرون في المغازي إلا الصحابة ، فمن تتبع الأخبار الواردة في الردة والفتوح وجد من ذلك الكثير .
ثانيها : أن قال : ( عبد الرحمن بن عوف كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا له ) . وهذا أيضا يوجد منه الكثير .
ثالثها : أنه لم يبق بالمدينة ولا بمكة ولا الطائف ولا من بينها من الأعراب [ ص: 94 ] إلا من أسلم وشهد حجة الوداع . فمن كان في ذلك الوقت موجودا اندرج فيهم ; لحصول رؤيتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يرهم هو ، والله أعلم .