قال الماوردي : وهذا صحيح ، والملامسة هي القسم الرابع من أقسام ما يوجب الوضوء فإذا لمس الرجل بدن المرأة أو المرأة بدن الرجل ، فالوضوء على اللامس منهما واجب سواء لمس بشهوة أو غيرها ، هذا مذهب الشافعي وبه قال من الصحابة عمر ، وابن مسعود ، وابن عمر ، ومن التابعين مكحول ، والشعبي ، والزهري ، ومن الفقهاء النخعي ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .
وقال مالك ، والثوري : إن ، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض . قبلها بشهوة انتقض وضوءه
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : وإن انتشر ذكره بالملامسة انتقض وضوءه ، وإن لم ينتشر لم ينتقض وقال عطاء : إن ، وإن مس من تحل له لم ينتقض ، وقال مس من تحرم عليه انتقض وضوءه ابن عباس والحسن البصري ، ومحمد بن الحسن : لا وضوء في الملامسة بحال واستدلوا جميعا على سقوط الوضوء منها على اختلافهم فيها برواية إبراهيم التيمي [ ص: 184 ] عن عائشة " " . أن النبي صلى الله عليه وسلم قبلها ولم يتوضأ
وبرواية الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة ، فقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ عروة : فقلت لها : من هي إلا أنت فضحكت ، وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فلو كان وضوءه انتقض لم يمض في سجوده قال : ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقمت ألتمسه بيدي فوقعت يدي على أخمص قدميه وسمعته يقول : " اللهم إني أعوذ بعفوك من عقابك " في صلاته فدل على أن لمس الإناث لا ينقض الوضوء قال : ولأنها ملامسة من جسمين فوجب ألا ينتقض بها الوضوء كما لو كان ذلك بين رجلين أو امرأتين ، ولأنه لمس بين ذكر وأنثى فوجب ألا ينتقض الوضوء قياسا على لمس ذوات المحرم ولأنه لمس جزء من امرأته فوجب ألا ينتقض الوضوء كلمس الشعر . أمامة بنت أبي العاص
ودليلنا : قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله : أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا .
فكان الدليل في الآية من وجهين :
أحدهما : أن حقيقة الملامسة اسم لالتقاء البشرتين لغة وشرعا .
أما اللغة قول الأعمش :
ولا تلمس الأفعى يدك تضرها ودعها إذا ما عينتها سبابها
[ ص: 185 ] وأنشد الشافعي :فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى أفدت وأغناني فضيعت ما عندي
وألمست كفي كفه طلب الغنى ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
والثاني : أن اسم الملامسة اسم له حقيقة ومجاز ، وقد يستعمل في الجماع والمسيس فلم يجز أن يكون حقيقة فيهما ، ولا أن يكون حقيقة في الجماع لأنه بالمسيس أخص وأشهر فصار مجازا في الجماع حقيقة في المسيس ، والحكم المعلق بالاسم يجب أن يكون إطلاقه محمولا على حقيقته دون مجازه . فإن قيل : بل هي حقيقة في الجماع لأمرين .
أحدهما : أن عليا وابن عباس حملاه على الجماع وهو بالمراد به أعرف .
والثاني : أنها مفاعلة لا تكون إلا من فاعلين وذلك هو الجماع دون المسيس ، قيل أما تأويلا علي ، وابن عباس فقد خالفهما ابن مسعود ، وابن عمر ، وكذلك عمر وعمار ، وأما المفاعلة لا تكون إلا من فاعلين فكذلك صورة المسيس باليد على أن حمزة والكسائي قد قرآ : أو لمستم وذلك لا يتناول إلا المسيس باليد فإن حملت قراءة من قرأ أو لامستم على الجماع كانت قراءة من قرأ أو لمستم محمولة على المسيس باليد ، فيكون اختلاف القراءتين محمولا على اختلاف حكمين على أن زيد بن أسلم وهو من أهل العلم بتفسير القرآن قال : إن في الآية تقديما وتأخيرا ورتب الآية ترتيبا حسنا يسقط معه هذا التأويل فقال : ظاهر قوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء [ النساء : 43 ] . فيقتضي أن يكون السفر والمرض حدثا وبالإجماع ليسا بحدث فدل على أن في الآية تقديما وتأخيرا ، وأن ترتيب الكلام : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من نوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين إن وجدتم الماء ، وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر وجاءكم ما تقدم من الحدث أو الجنابة فتيمموا صعيدا طيبا ، وهذا تفسير يقتضيه ظاهر الآية ويسقط معه هذا التأويل ، وليس يمتنع في الكتاب واللغة التقديم والتأخير ، قال الله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ الكهف : 1 ] . تقديره " الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا " ، وقال : فضحكت فبشرناها بإسحاق [ هود : 71 ] أي بشرناها بإسحاق فضحكت ، وقال الشاعر :
لقد كان في حول ثواء ثويته تقضي لبانات ويسأم سائم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يتوضأ وضوءا حسنا " وهذا أمر لسائل مسترشد يقتضي وجوب ما تضمنه ، ثم الدليل من طريق القياس أنها مماسة توجب الفدية على المحرم فوجب أن تنقض الوضوء كالجماع ، ولأنه معنى من جنسه لم يوجب الطهارة الكبرى ، فوجب أن يكون من نوعه ، لم يوجب الطهارة الصغرى كالمني والمذي ، ولأن كل ملامسة لو قارنها انتشار وجب فيها الطهارة فإذا خلت عن الانتشار وجبت فيها تلك الطهارة كالتقاء الختانين ، ولأنها طهارة حكمية فجاز أن ينقسم موجبها إلى خارج وملاقاة كالغسل ، لأنه معنى يقضي إلى نقض الطهر في الغالب فجاز أن يتعلق نقض الطهر بعينه كالنوم .
فأما الجواب عن خبري عائشة فمن ثلاثة أوجه .
أحدها : ضعفهما وطعن أصحاب الحديث فيهما ، قال أبو داود في سننه : أما حديث إبراهيم عن عائشة فمرسل لأن إبراهيم لم يسمع من عائشة . وأما حديث حبيب بن عروة فقال الأعمش : هو عروة المزني وليس بعروة بن الزبير .
وحكي عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال لرجل احك عني أن هذين الحديثين شبه لا شيء .
والجواب الثاني : ما قاله أحمد بن حنبل وأبو بكر النيسابوري أن حبيب بن أبي ثابت غلط فيه من الصيام إلى الوضوء .
والجواب الثالث : أنه إذا صح الحديث فحمله على القبلة من وراء ثوب وبها يبطل قول من ذهب إلى وجوب الوضوء باللمس من وراء ثوب ، ولا يمتنع أن ينطلق اسم القبلة على ذلك ، قال الشاعر :
وكم من دمعة في الخد تجري وكم من قبلة فوق النقاب
والثاني : أنه كان داعيا في غير الصلاة ، وذلك يجوز للمحدث وليس من شرط الدعاء ألا يكون إلا في الصلاة .
والثالث : أنه يجوز أن يكون من وراء حائل ، وأما الجواب عن حمله فمن وجهين : أمامة بنت أبي العاص
أحدهما : أن حملها لا يتقضى مباشرة بدنها .
والثاني : أنها من ذوات المحارم لأنها بنت بنته زينب ، ولا وضوء في لمس المحارم عندنا في أحد القولين وإن كانت صغيرة فلا يبطل وضوءه على أحد القولين ، وأما الجواب عن قياسهم على لمس ذوات المحارم فهو أن لنا فيها قولين فلا نسلم على أحد القولين .
والقول الثاني : أنه لا يوجب ، والفرق بين الأجانب وبينهن أنهن جنس لا يستباح الاستمتاع بهن كالذكور بخلاف الأجانب ، وأما الجواب عن قياسهم على لمس الشعر فقد كان بعض أصحابنا يوجب الوضوء من لمسه فعلى هذا لا نسلم ، وظاهر المذهب أنه لا وضوء من لمسه ، والمعنى فيه أنه لمس لا يقصد به اللذة في الغالب وكذا الظفر والسن وليس كذلك لمس الجسم لأنه مقصود للذة في الغالب .