فصل : الشافعي في تقديره للقلتين احتياط
ثم إن الشافعي لم ير قلال هجر ، ولا أهل عصره : لأنها تركت ونفدت فاحتاج إلى تقديرها بما هو معروف عندهم ومشاهد منهم فقدرها بقرب الحجاز : لأنها متماثلة مشهورة ، فروي عن ابن جريج أنه قال : قد رأيت قلال هجر ، والقلة تسع قربتين ، أو قال : قربتين وشيئا ، قال الشافعي : فالاحتياط أن تكون القلتان خمس قرب .
فإن قيل : فهذا تقليد منه لابن جريج ، والتقليد عنده لا يجوز ، قيل : ليس هذا تقليدا في حكم ، وإنما هو قبول خبر في مغيب ، وذلك جائز .
فإن قيل : لم جعل الشيء الزائد على القربتين نصفا وزعم أنه احتياط ، وقد يجوز أن يكون الشيء منطلقا على أكثر من النصف ، قيل : الشيء هاهنا نصف في الاحتياط لثلاثة أمور :
أحدها : أن ابن جريج شك في القدر هل هو قربتان أو قربتان وشيء : فلم يجز أن يكون الشك إلا يسيرا هو أقل من النصف ليخفى ولا يكثر فيزول الشك فيه فلما جعله نصفا ، ومقتضى الحال يوجب أن يكون أقل من النصف كان احتياطا .
والثاني : أن الشيء إذا كان مستعملا في التبعيض كان مشارا به في العرف إلى أقل البعضين فإذا كان البعض الزائد على الشيئين أقل من النصف قالوا اثنين وشيء ، وإذا كان أكثر من النصف ، قالوا ثلاثة إلا شيئا ، فلما جعل الشيء الزائد نصفا كاملا كان احتياطا .
[ ص: 335 ] والثالث : أنه لما كانت القربة الثالثة متبعضة فبعضها من جملة القلة ، وبعضها ليس منها ، ولم يكن تكثير أحد البعضين على الآخر بأولى من عكسه ، وجب التسوية بين البعضين ، فجعل كل أحد منهما نصفا مساويا لصاحبه ، وهو القليل لا يكون للاحتياط فيه تأثير فجعل الشافعي خمس قرب احتياطا : لأن مجاوزة المقادير للاستيفاء احتياط لها أولى كما يتجاوز حد الوجه في غسله وحد العورة وإمساك شيء من الليل في طرف الصوم ، ولم يتعرض الشافعي لتحديد القرب بالأرطال ، لأنه اكتفى أهل عصره في بلده بالقرب المشهورة بينهم ، عن أن يقدر كل قربة لهم كما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بالقلال المشهورة بين أظهرهم عن أن يقدر كل قلة لهم والله أعلم .