مسألة : قال الشافعي : " ولو جاز ما قال غيري يتيمم للجنازة لخوف الفوت لزمه ذلك لفوت الجمعة والمكتوبة فإذا لم يجز عنده لفوت الأوكد كان من أن يجوز فيما دونه أبعد . وروي عن ولا يتيمم صحيح في مصر لمكتوبة ولا لجنازة ابن عمر أنه كان لا يصلي على جنازة إلا متوضئا " .
قال الماوردي : وهذا كما قال : مستحقة كما تستحق في سائر الصلوات وحكي عن الطهارة في الصلاة على الجنازة عامر بن شراحيل الشعبي وعن داود بن علي الأصبهاني ، وعن ابن جريج الطبري : أن الصلاة على الميت دعاء لا يفتقر إلى طهارة . وقال أبو حنيفة : الطهارة في الصلاة على الميت واجبة لكن يجوز أن يتيمم لها مع وجود الماء إذا خاف فواتها ، وكذلك قاله في استدلالا بحديث صلاة العيدين يجوز أن يتيمم لها إذا خاف فواتها مع الإمام ابن عمر فمنه دليلان : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به رجل في سكة من السكك فسلم عليه فلم يرد عليه حتى كاد الرجل أن يتوارى في السكة فتيمم ثم رد على الرجل السلام ، وقال : إنه لم يمنعني أن أرد إلا أني لم أكن على طهر
أحدهما : أنه لما تيمم بالمدينة مع وجود الماء خوفا من فوات السلام كان تيممه خوفا من فوات الجنازة أولى .
والثاني : أنه جعل التيمم في تلك الحالة طهورا فاقتضى أن يكون فعل الصلاة به جائزا ، قالوا : ولأنها صلاة لا يقدر على فعلها إلا بالتيمم ، فاقتضى بأن يجزئه ، كالمريض والمسافر ، ولأن الطهارة بالماء تجب لأجل الصلاة ، فإذا لم يتوصل بالماء إلى تلك الصلاة سقط عنه استعمال الماء كالحائض .
ودليلنا هو أن الصلاة على الميت صلاة شرعية : لقوله صلى الله عليه وسلم : " فرض على أمتي غسل موتاها والصلاة عليها " وإذا ثبت أنها صلاة لزمته الطهارة ، بخلاف قول الشعبي لقوله صلى الله عليه وسلم : " ، وإذا ثبت وجوب الطهارة لها لزمه استعمال الماء فيها : لعموم قوله تعالى : " لا يقبل الله صلاة بغير طهور إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 6 ] . فاقتضى استعمال الماء على كل قائم إلى الصلاة ، ثم قال : وإن كنتم مرضى أو على سفر [ المائدة : 6 ] إلى قوله : فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا غير مريض ولا مسافر فلم يجز أن يتيمم ، ولأنها حالة لا يستبيح فيها الفرائض بالتيمم ، فلم يستبح غير الفرائض بالتيمم ، أصله إذا كان الماء بين يديه ، ولأن كل من امتنع عليه استباحة الجنائز كالمحدث ، ولأن كل شرط [ ص: 282 ] لم يتحقق العجز عنه في صلاة الفريضة ، لم يتحقق العجز عنه في صلاة الجنازة ، أصله إذا كان عريانا ، وفي بيته ثوب ، ولأن كل ما كان شرطا لصلاة الفرائض ، كان شرطا لصلاة الجنائز كإزالة النجاسة ، والتوجه إلى القبلة ، ولأن كل صلاة احتيج فيها إلى الطهور لم يجز افتتاحها بالتيمم مع القدرة على الماء كسائر الصلوات ، ولما ذكره الشافعي رضي الله عنه من أنه لما لم يجز أن يتيمم مع وجود الماء لفوات الجمعة التي أوكد فلأن لا يجزئه لما دونها من الجنازة بعد .
وأما الجواب عن استدلالهم بالخبر أنه تيمم لرد السلام ، فمن وجهين :
أحدهما : يجوز أن يكون تيمم لعدم الماء .
والثاني : أنه لما جاز أن يرد السلام بغير طهور جاز أن يتيمم له مع وجود الماء .
فإن قيل : فما الفائدة في تيممه ، قيل : تعليمه التيمم ، لأن الشرع مأخوذ من أفعاله وأقواله .
والجواب عن قياسهم على المريض والمسافر ، فالمعنى فيه أنه لما جاز التيمم للفريضة جاز للجنازة ، وليس كذلك هذا وأما الجواب عن قولهم : إن في الطهارة لها فواتا لفعلها فهو أنه منتقض بالجمعة ، يفوت فعلها ، ولا يجوز أن يتيمم لها .
فإن قيل : فالجمعة تنتقل عند فواتها إلى الظهر ولا تنتقل في الجنازة إلى بدل .
قيل : ليس الظهر جمعة لا سيما قولهم من خرج عنه وقت الجمعة ، وهو فيها بطلت ولم يتمها ظهرا ثم نقول : إن صلاة الجنازة لا تفوت : لأنه يقدر على ، فإن منعوا من الصلاة على القبر فهو بناء خلاف على خلاف ثم ندل عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على القبر أنه صلى على قبر مسكينة ، وصلى على قبر بعد شهر فجعله أحمد بن حنبل الشهر حدا في جواز الصلاة على القبر : لأجل هذا الخبر ، وليس الشهر عندنا حدا .
فإن قيل : لو جازت الصلاة على القبر لجازت الآن على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قيل : عن هذا أجوبة :
أحدها : أننا نجوزها على مثل ما كانت تجوز قبل فيه ، وهو أن يدعو الناس أفواجا وينصرفون .
والثاني : إنما يمنع من الصلاة على قبره : لأن لا يتخذ مسجدا : لقوله صلى الله عليه وسلم " . [ ص: 283 ] والثالث : أنها تجوز الصلاة على القبر ، لمن دخل في فرض تلك الصلاة وهو يتناول أهل ذلك العصر ، فجاز لهم أن يصلوا عليه ، ولم يجز لمن بعد ، ثم يقال " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لأبي حنيفة : قد جوزت الصلاة على القبر للإمام والولي ، فلو جاز التيمم لها خوفا من فواتها لاقتضى أن لا يجوز للإمام والولي : لأنها لا تفوتهما ، وقد أجاز ذلك لهما كما أجازه لغيرهما ، فدل على فساد ما اعتل به من الفوات والله أعلم .