مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولو عجل المشتري فوطئها فأحبلها قبل التفرق في غفلة من البائع ، واختار البائع فسخ البيع ، كان على المشتري مهر مثلها ، وقيمة ولده منها يوم تلده ، ولحقه بالشبهة " .
قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا ، فعلى ضربين : وطئ المشتري الجارية المبيعة في مدة الخيار
أحدهما : أن يكون وطؤه فيما دون الفرج ، فلا مهر فيه سواء تم البيع أو انفسخ . وهل يوجب ذلك تحريم المصاهرة أم لا ؟ على قولين .
والضرب الثاني : أن يطأ في الفرج ، فهذا على ضربين :
أحدهما : أن تحبل بوطئه .
والثاني : أن لا تحبل .
فإن لم تحبل بوطئه ، فلا حد عليه فيه على الأقاويل كلها ، لشبهة الملك .
فأما المهر ، فمعتبر بتمام البيع وفسخه :
فإن تم البيع بينهما ، فلا مهر عليه إن قيل : إنه قد ملك بنفس العقد ، أو قيل : إنه مراعى ، لأن وطأه : صادف ملكه . وإن قيل : إنه لا يملك إلا بالعقد والافتراق ، ففي وجوب المهر عليه وجهان مبنيان على اختلاف الوجهين في خيار المجلس والشرط ، هل يجري مجرى خيار العيب أو مجرى خيار البذل والقبول ؟
أحدهما : أنه يجري مجرى خيار العيب فعلى هذا لا مهر عليه .
والثاني : أنه يجري مجرى خيار البذل والقبول ، فعلى هذا عليه المهر .
وإن انفسخ البيع بينهما ، فعليه المهر إن قيل : لا يملك إلا بالعقد والافتراق ، أو قيل : إنه مراعى .
[ ص: 54 ]
فأما إن قيل : إنه قد ملك بنفس العقد ، ففي وجوب المهر عليه وجهان على ما مضى .
فصل : وإن أحبلها بوطئه ، فالولد حر يلحق به : ويتعلق على ذلك ثلاثة أحكام :
أحدها : في المهر ، وهو على ما مضى سواء .
والثاني : في قيمة الولد ، وهو كالمهر .
إن تم البيع بينهما ، فلا قيمة للولد عليه ، إن قيل : إنه قد ملك بنفس العقد ، أو قيل : إنه مراعى .
وإن قيل : إنه لا يملك إلا بالعقد والافتراق ، ففي وجوب قيمته وجهان :
أحدهما : عليه القيمة ، لأنها حملت به في غير ملكه .
والثاني : لا قيمة عليه ، لأنها تضعه في ملكه .
وإن انفسخ البيع بينهما ، فعليه قيمة الولد إن قيل : لا يملك إلا بالعقد والافتراق ، أو قيل : إنه مراعى .
وإن قيل : إنه قد ملك بنفس العقد ، ففي وجوب قيمته وجهان :
أحدهما : ليس عليه قيمته ، لأنها علقت به في ملكه .
والثاني : عليه قيمته : لأنها تضعه في غير ملكه .
والحكم الثالث : في كونها أم ولد أم لا ؟ وهو مبني على أصل نذكره ، ثم نبني جواب المسألة عليه ، وذلك أنه لا يخلو ولد الأمة من ثلاثة أضرب :
أحدها : إن تعلق بمملوك ، إما من زواج أو زنا ، فلا تصير به أم ولد للواطئ في الحال ولا في ثاني حال .
والضرب الثاني : إن تعلق بحر في ملك كالسيد يطأ أمته ، فتعلق منه ، فقد صارت به أم ولد في الحال .
فلو كان قد تعلق برقبتها حق الغير فبيعت فيه كالمرتهن إذا بيعت في حقه ، ثم ملكها من بعد ، صارت أم ولد قولا واحدا .
والضرب الثالث : إن تعلق بحر في غير ملك كوطء الشبهة ، فلا تصير به أم ولد في الحال .
وهل تصير به أم ولد إذا ملكها في ثاني حال ؟ على قولين :
فإذا ثبت هذا الأصل ، فلا يخلو حال العقد عليها من أحد أمرين :
إما أن يتم بينهما ، أو ينفسخ . فإن تم البيع بينهما ، صارت أم ولد له ، إذا قيل : إنه قد ملك بنفس العقد أو قيل : إنه مراعى : لأنها علقت منه بحر في ملك .
[ ص: 55 ] فأما إن قيل : إنه لا يملك إلا بالعقد والافتراق ، فهل تصير له أم ولد أم لا ؟ على قولين : لأنها قد كانت علقت منه بحر في غير ملك .
وإن انفسخ البيع بينهما ، صح الفسخ وكان للبائع أن يتصرف فيها بعد الفسخ كيف شاء من بيع أو غيره : لأن تعلق حقه برقبتها مقدم على حرية ولدها ، كحق المرتهن ، إذا صارت الأمة المرهونة أم ولد للراهن . وإن ملكها المشتري فيما بعد ، فإن قيل : إنه قد كان ملكها بنفس العقد ، صارت له أم ولد ، لأنها قد كانت علقت منه بحر في ملكه . وإن قيل : إنه لم يكن مالكا إلا بالعقد والافتراق ، أو قيل : إن الملك مراعى ، فهل تكون أم ولد له أم لا ؟ على قولين ، لأنها قد كانت علقت منه بحر في غير ملك .
فصل : وأما قول الشافعي : ولو عجل المشتري ، فوطئها ، فأحبلها قبل التفرق .
فقد أنكر عليه قوم ، وقالوا : إحبالها قبل التفرق مستحيل .
وعنه جوابان :
أحدهما : أنه على التقديم والتأخير ، وتقدير الكلام :
ولو عجل المشتري فوطئها قبل التفرق في غفلة من البائع فأحبلها ، وهذا مستقيم ، فقدم لفظ الإحبال ، وإن كان في المعنى مؤخرا .
والجواب الثاني : أن الكلام على حاله لا تقديم فيه ولا تأخير ، ومعناه مستقيم : لأن الإحبال يقع قبل التفرق : لأنه حادث عن الوطء ، وإنما يتأخر ظهوره ، وليس تأخر ظهوره بمانع من حصوله .
وأما قوله : في غفلة من البائع : ففيه تأويلان :
أحدهما : أنه شرط في بقاء الخيار للبائع ، ولو رآه البائع يطأ كان رضا منه لإمضاء البيع وقطعا لخياره . وهذا قول أبي العباس بن سريج : لأن البائع يستحق بخياره منع المشتري من التصرف ، فإذا رآه يتصرف ، فأمسك عن منعه ، كان راضيا به ، فبطل خياره .
والتأويل الثاني : أنه قال ذلك لتحقيق صورة المسألة ، إذ بعيد في العادة أن يطأ الناس بحضرة الناس ، فأحب أن يصورها على ما يصح وجودها في العرف ، ولا يكون ذلك شرطا في خيار البائع ، ولا تكون رؤية البائع وعدم إنكاره قطعا لخياره : لأن الرضا لا يكون مأخوذا من فعل الغير والله أعلم .
فصل : فأما وطء المشتري ، فهل يكون قاطعا لخياره ورضا منه لإمضاء البيع أم لا ؟
على وجهين :
أحدهما : وهو قول أبي العباس بن سريج : يكون قاطعا لخياره كوطء البائع .
[ ص: 56 ] والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي : أن وطء المشتري لا يكون رضا لإمضاء البيع ، وإن كان وطء البائع رضا للفسخ .
والفرق بينهما : أن البيع لما لم يصح إلا بالقول ، لم يصح إمساكه والرضا به إلا بالقول .
ولما كان الملك قد يحصل بالفعل كالاصطياد والاحتشاش ، جاز أن يكون الرد إلى الملك بالفعل يفسخ البيع فيصح بالفعل .