الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولا خير في شاة فيها لبن يقدر على حلبه بلبن من قبل أن في الشاة لبنا لا أدري كم حصته من اللبن الذي اشتريت به نقدا ، وإن كانت نسيئة فهو أفسد للبيع ، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للبن التصرية بدلا ، وإنما اللبن في الضرع كالجوز واللوز المبيع في قشره يستخرجه صاحبه أنى شاء ، وليس كالولد لا يقدر على استخراجه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : لا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن .

                                                                                                                                            [ ص: 124 ] وقال أبو حنيفة بجوازه : لأن اللبن في الشاة تبع للشاة وغير مقصود في نفسه ، ولذلك جازت الجهالة فيه ، فلما جاز بيع ذلك بالدراهم لكون اللبن في الضرع تبعا وغير مقصود ، جاز بيعه باللبن .

                                                                                                                                            ولأن اللبن لو كان مقصودا وكان الثمن عليه مقسطا لجاز إفراده بالعقد ، فلما لم يجز أن يكون بالعقد مفردا اقتضى أن يكون تبعا .

                                                                                                                                            ولأن اللبن نماء كالحمل ، فلما كان الحمل تبعا ، فاللبن أولى أن يكون تبعا : لأن الحمل كأصله ، واللبن فرع من فروع أصله .

                                                                                                                                            وهذا خطأ .

                                                                                                                                            والدليل على أن اللبن في الضرع مقصود ويأخذ قسطا من الثمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للبن التصرية بدلا فقال : إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر " .

                                                                                                                                            فلولا أن العقد يتناول الشاة ولبنها الذي في الضرع كما يتناوله إذا كان محلوبا في إناء ، لأسقط - عليه السلام - غرمه في استهلاكه مع قضائه أن الخراج بالضمان .

                                                                                                                                            وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يحلبن أحدكم شاة أخيه بغير أمره ، ضروع مواشيكم خزائن طعامكم ، أيحب أحدكم أن يأتي خزانة أخيه فيأخذ ما فيها " .

                                                                                                                                            فجعل ما في الضرع من اللبن مثل ما في الخزانة من المتاع ، فلما كان متاع الخزانة مقصودا يتقسط عليه الثمن وجب أن يكون لبن الضرع مقصودا يتقسط عليه الثمن .

                                                                                                                                            وإذا ثبت بهذين الخبرين أن لبن الضرع مقصود يتقسط عليه الثمن ، لم يجز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن ، كما لا يجوز بيع شاة ولبن محلوب بلبن ، لأجل التفاضل ، كما قلنا في مد تمر ودرهم بمدي تمر . فأما استدلاله على كونه تبعا لجهالة قدره وجواز بيعه بالدراهم فالجواب : أن جهالة قدره غرر ، والغرر اليسير في البيع مجوز للضرورة . وبيعه باللبن ربا ، والربا اليسير في البيع غير مجوز مع الضرورة .

                                                                                                                                            وأما استدلاله بأنه لما لم يجز إفراد لبن الضرع بالعقد دل على أنه ليس له في الثمن قسط ، فالجواب عنه أن يقال : ليس كل ما جاز بيعه مفردا اقتضى ألا يأخذ من الثمن قسطا . [ ص: 125 ] ألا ترى أن الثمرة قبل بدو صلاحها يجوز بيعها تبعا لنخلها ، ولا يجوز بيعها مفردا ، وقد أجمعوا أنها تأخذ من الثمن قسطا .

                                                                                                                                            وكذلك أساس الدار يجوز بيعه تبعا للدار ، وإن لم يجز بيعه مفردا ، وقد اتفقوا أنه يأخذ من الثمن قسطا كذلك اللبن في الضرع .

                                                                                                                                            فأما إلحاقه بالحمل فللشافعي في الحمل قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يأخذ قسطا من الثمن فعلى هذا يسقط السؤال .

                                                                                                                                            والثاني : يكون تبعا .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : ما ذكره الشافعي : أن اللبن في الضرع كالجوز واللوز المبيع في قشوره يستخرجه صاحبه إذا شاء ، وليس كالدر لا يقدر على استخراجه . يعني : أن اللبن في الضرع مقدور عليه ، والحمل غير مقدور عليه .

                                                                                                                                            فصل : فأما بيع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن فباطل أيضا لما ذكرنا .

                                                                                                                                            وقال أبو الطيب بن سلمة : يجوز : لأنه لما جاز بيع السمسم بالسمسم ، وإن كان فيهما دهن غير ظاهر ، كذا يجور بيع شاة بشاة وإن كان فيهما لبن غير ظاهر . وهذا خطأ : لأن الشاة واللبن جميعا مقصودان بالعقد على ما بينا ، وليس كالدهن في السمسم : لأن دهن السمسم لا يمتاز عن كسبه فيصيران مقصودين ، وإنما الدهن تبع فلم يكن به معتبرا ، وجرى بيع الشاة التي في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن مجرى بيع نخلة فيها رطب بنخلة فيها رطب ، لما لم يجز : لأن كل واحد من النخل والرطب مقصود ، لم يجز في مسألتنا : لأن كل واحد من الشاة واللبن مقصود .

                                                                                                                                            فصل : فأما بيع شاة في ضرعها لبن بشاة لبون ليس في ضرعها لبن فجائز لعدم الربا ، كما يجوز بيع نخلة فيها رطب بنخلة ليس فيها رطب ، ولكن لو باع شاة في ضرعها لبن بشاة مذبوحة ليس في ضرعها لبن لم يجز ، لا من جهة الربا ، ولكن من حيث أن بيع اللحم بالحيوان لا يجوز .

                                                                                                                                            فأما إذا باع شاة في ضرعها لبن ببقرة في ضرعها لبن ، ففيه قولان : أحدهما : باطل إذا قيل إن الألبان جنس واحد .

                                                                                                                                            والثاني : يجوز إذا قيل إن الألبان أجناس .

                                                                                                                                            وإذا كان بيع الشاة التي في ضرعها لبن لا يجوز باللبن ، لم يجز أيضا بالزبد ، ولا بالسمن ، ولا بالمصل ، ولا بالأقط ، كما لا يجوز بيع اللبن بشيء من ذلك .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا باع دجاجة فيها بيض ببيض ، فعلى قولين مخرجين من اختلاف قوليه في الحمل . هل يكون تبعا أو يأخذ قسطا من الثمن : لأن البيض كالحمل .

                                                                                                                                            [ ص: 126 ] فإن قيل إن الحمل تبع جاز بيع الدجاجة التي فيها بيض بالبيض ، لأن ما مع الدجاجة من البيض تبع .

                                                                                                                                            وإن قيل إن الحمل يأخذ قسطا من الثمن لم يجز : لأن بيع البيض بالبيض لا يجوز على قوله الجديد .

                                                                                                                                            فصل : إذا باعه دارا فيها ماء بدار فيها ماء ، فإن قيل : إن الماء لا ربا فيه على أحد الوجهين ، جاز هذا بكل حال ، وإن قيل في الماء الربا ، لم يخل حال الماء الذي في الدار من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون محرزا في الأجباب أو حاصلا في الآبار .

                                                                                                                                            فإن كان في الأجباب فهو مملوك لا يختلف ، وهذا بيع غير جائز : خوف التفاضل في الماء ، كما لا يجوز بيع شاة معها لبن بشاة معها لبن .

                                                                                                                                            وإن كان الماء في الآبار ، فقد كان بعض أصحابنا يزعم أن ماء البئر يكون ملكا لمالك البئر كما يملك بالإجارة في الأجباب .

                                                                                                                                            فعلى هذا يمنع من بيع دار ذات بئر فيها ماء بدار ذات بئر فيها ماء ، إلا أن يكون الماء ملحا فيجوز : لأن الماء الملح غير مشروب ولا ربا فيه .

                                                                                                                                            وذهب جمهور أصحابنا ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ، إلى أن ماء البئر لا يملك إلا بالأخذ والإجارة ، وكذلك ماء العين والنهر ، وإنما يكون لمالك البئر منع غيره من التصرف في بئره أو نهره . فإن تصرف غيره وأجاز المالك كان ما أجازه أملك به من صاحب البئر .

                                                                                                                                            وإنما لم يملك ماء البئر إلا بالإجارة لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن من اشترى دارا ذات بئر فاستعمل ماءها ، ثم ردها بعيب لم يلزمه للماء غرم ، ولو كان مملوكا لزمه غرمه كما يغرم لبن الضرع .

                                                                                                                                            والثاني : أن مستأجر الدار له أن يستعمل ماء البئر ، ولو كان على ملك صاحب الدار لم يكن له استعماله ، فثبت بهذين أن الماء لا يملك إلا بالإجارة .

                                                                                                                                            فعلى هذا يجوز بيع دار ذات بئر فيها ماء بدار ذات بئر فيها ماء .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية