الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 296 ] مسألة : قال الشافعي : " وإن توضأ رجل ثم جمع وضوءه في إناء نظيف ثم توضأ به أو غيره لم يجزه لأنه أدى به الوضوء الفرض مرة وليس بنجس لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ولا شك أن من بلل الوضوء ما يصيب ثيابه ولا نعلمه غسله ولا أحدا من المسلمين فعله ولا يتوضأ به لأن على الناس تعبدا في أنفسهم بالطهارة من غير نجاسة وليس على ثوب ولا أرض تعبد ولا أن يماسه ماء من غير نجاسة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الماء المستعمل في الطهارة على ثلاثة أضرب : ضرب مستعمل في رفع حدث ، وضرب مستعمل في إزالة نجس ، وضرب مستعمل في أمر ندب ، فأما المستعمل في رفع الحدث فهو ما انفصل من أعضاء المحدث في وضوئه ، أو من بدن الجنب في غسله فمذهب الشافعي المنصوص عليه في كتبه القديمة والجديدة وما نقله عنه جميع أصحابه سماعا ، ورواية أنه طاهر مطهر ، وحكى عيسى بن أبان فيما جمع من الخلاف عن الشافعي جواز الطهارة به ، وقال أبو ثور : سألت الشافعي عنه فتوقف فاختلف أصحابنا لأجل هذه الحكاية ، فكان أبو إسحاق المروزي وأبو حامد المروزي يخرجان الماء المستعمل على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه طاهر غير مطهر ، وهو ما صرح به في جميع كتبه ، ونقله جمهور أصحابه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه طاهر مطهر ، وهو ما حكاه عيسى بن أبان ، ودلت عليه رواية أبي ثور وكان أبو العباس وابن أبي هريرة يمنعان من تخريج القولين ويعدلان عن رواية عيسى : لأنه وإن كان ثقة فهو مخالف يحكي ما يحكيه أصحاب الخلاف ولم يلق الشافعي فيحكيه سماعا من لفظه ولا هو منصوصه فيأخذ من كتبه ولعله تأول كلامه في نصرة طهارته ردا على أبي يوسف ، فحمله على جواز الطهارة ، وأما أبو ثور فليس في روايته دليل لأن التوقف لا يكون مذهبا ولعل توقفه عن الجواز إنما كان اعتمادا على ما صرح به في كتبه ولعمري إن هذه الطريقة أصح الطريقتين من تخريج ذلك على القولين فصار المذهب في الماء المستعمل أنه طاهر غير مطهر ، وبه قال من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، ومن الفقهاء : الأوزاعي ، والثوري ومحمد بن الحسن ، وقال الحسن البصري ، وابن شهاب الزهري ، وداود بن علي ، ومالك في إحدى الروايتين عنه : أنه طاهر مطهر ، وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف هو نجس ، [ ص: 297 ] وأما من ذهب إلى جواز الطهارة به فاستدل بقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ الفرقان : 48 ] وإنما ثبت له هذه الصفة إذا تكرر منه التطهير كما ثبت للقاتل اسم المقتول إذا تكرر منه القتل ، وبرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل فبقي على منكبه لمعة لم يصبها الماء فعصر شعره وأمر الماء عليه ، وروت الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بفضل ما كان في يده وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بلل لحيته فمسح بها رأسه .

                                                                                                                                            وهذه كلها نصوص في جواز الطهارة به ، قالوا : ولأن الطهور إذا لاقى طاهرا لا يخرج عن كونه مطهرا قياسا على الجاري على أعضائه تبردا ، أو تنظفا ، قالوا : ولأن للماء صفتين الطهارة والتطهير ، فلما لم يسلبه الاستعمال الطهارة لم يسلبه التطهير ، وتحريره إن كل صفة كانت للماء قبل ملاقاة الأعضاء الطاهرة كانت له بعد ملاقاة الأعضاء الطاهرة ، قياسا على الطهارة ، قالوا : ولأن الشروط المعتبرة في أداء الطهارة لا يمنع استعمالها كرة من تكرارها في كل صلاة كالأرض والثوب ، قالوا : ولأن رفع الحدث بالماء لا يمنع من رفعه ثانيا بذلك الماء ، أصله : إذا جرى على البدن من عضو إلى عضو ، والدلالة على أنه لا يجوز التطهر به قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم [ المائدة : 6 ] فأمر بغسل اليد بما أمر به في غسل الوجه فلما كان غسل الوجه بماء غير مستعمل ، فكذلك سائر الأعضاء بماء غير مستعمل ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نتوضأ بالماء الذي يسبق إليه الجنب ، وكان ذلك محمولا على ما سبق الجنب إلى استعماله ، ولأن إجماع الصحابة منعقد على المنع من استعمال الماء المستعمل .

                                                                                                                                            وبيانه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : إجماعهم على من قل معه الماء في سفره أنه يستعمله استعمال إراقة وإتلاف ولو جاز استعماله ثانية لمنعوه من إراقته في الاستعمال ولألزموه جمع ذلك لطهارة ثانية .

                                                                                                                                            والثاني : أنهم اختلفوا فيمن وجد بعض ما يكفيه على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يقتصر على التيمم ولا يستعمله .

                                                                                                                                            والثاني : أن يستعمله ويتيمم لباقي بدنه ، ولو جاز استعمال المستعمل لاتفقوا على وجوب استعماله في بعض بدنه ثم أعاد استعماله في باقي بدنه فيكمل له الطهارة بالماء فظهر من هذين الوجهين أن إجماع الصحابة منعقد على المنع من استعمال المستعمل ، وأما [ ص: 298 ] الدلالة من حيث المعنى فهو أن أعضاء المحدث طاهرة غير مطهرة ، والماء طاهر مطهر ، فإذا استعمل في تطهير الأعضاء انتقلت صفة المنع إلى الأعضاء ، لأنه لما تعدى عنه التطهير زال عنه التطهير ، كما لو تعدت عنه الطهارة جاز أن تزول عنه الطهارة ، ولأنه ماء أدى به فرض الطهارة فلم يجز استعماله في الطهارة كالماء المزال به النجاسة ، ولأنه إتلاف مال في إسقاط فرض ، فلم يجز أن يعاد في إسقاط مثل ذلك الفرض ، قياسا على العتق في الكفارة لا يجوز أن يعاد ثانية في كفارة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله : ليطهركم به [ المائدة : 6 ] فهو أن هذه الصفة مستحقة فيه قبل وجود التطهير ، فلم يلزم أن يتعلق بتكرار التطهير ، بخلاف القتل . فأما الجواب عن حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل لمعة في منكبه بما عصره من شعره فمن وجهين : أحدهما : أن المستعمل ما انفصل عن العضو ، وما عليه فهو غير مستعمل ، ألا ترى أنه لو جرى إلى عضو آخر طهره فكذا إذا جرى من شعره على منكبه طهره .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يجوز أن يكون من غسله ثانية وماؤهما غير مستعمل ، وكذا الجواب عن حديث الربيع .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن مسح رأسه ببلل لحيته فهو ما ذكرنا ، وزيادة جواب ثالث وهو أن ما استرسل من اللحية لا يلزم إمرار الماء عليه في أحد القولين ، فكان ما حصل في غسلها غير مستعمل فجاز أن يستعمل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على [ المستعمل في تبرد أو تنظف فهو إن المعنى فيه إن لم يتعد عن التطهير فلم يسلبه حكم التطهير .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم عن ] الطهارة فهـو أنه لما لم يكن تأثيرا في الطهارة جاز أن لا يزول عنه صفة الطهارة ولما كان له تأثير في التطهير زالت عنه صفة التطهير ، وأما الجواب عن قياسهم على التراب والأرض فهو أن المعنى فيه أن ذلك غير مستعمل على وجه الإتلاف ، فجاز أن يعاد ] كالطعام في الكفارة والماء يستعمل على وجه الإتلاف فلم يجز أن يعاد ، كالعتق في الكفارة ، وأما الجواب عن قياسهم على ما انحدر من عضو إلى عضو فهو ما ذكرناه من أن المستعمل ما انفصل من الأعضاء ، وليس بمستعمل ما لم ينفصل عنها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية