الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : الكلب إذا ولغ في إناء

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا ولغ الكلب في الإناء فقد نجس الماء وعليه أن يهرقه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، الكلب نجس ، فإذا ولغ في الإناء صار وما فيه نجسا ، وقال مالك وداود : الكلب طاهر فإذا ولغ في الإناء كان وما فيه طاهرا ، ووجب غسله تعبدا ، وبه قال الزهري والأوزاعي والثوري استدلالا بأن الله تعالى أباح الاصطياد به فقال : وما علمتم من الجوارح مكلبين [ المائدة : 4 ] ولو كان نجسا لأفسد ما صاده بفمه ، ولما ورد الشرع بإباحته ، وبرواية عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، وقيل إن الكلاب والسباع تلغ فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لها ما في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور " فدل هذا الحديث على طهارة الكلب من وجهين .

                                                                                                                                            أحدهما : أنه جمع بينه وبين السباع فلما كان السبع طاهرا كان ما جمع إليه في الحكم طاهرا .

                                                                                                                                            [ ص: 305 ] والثاني : أنه جعل ما بقي من شربه طهورا ، وقد يكون الباقي قليلا ، ويكون الباقي كثيرا ، قالوا : ولأنه حيوان يجوز الاصطياد به فوجب أن يكون طاهرا كالفهد ، قالوا : ولأنه لما كان الموت علما على النجاسة كانت الحياة علما على الطهارة ، والدليل على نجاسته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى حرم الكلب وحرم ثمنه وحرم الخمر وحرم ثمنها " فاقتضى أن يكون التحريم في جميعه عاما ، وروى مطرف عن ابن المغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ثم قال : ما لهم ولها فرخص في كلب الصيد وكلب الغنم فلما أمر بقتلها واجتنابها ، ورخص في الانتفاع ببعضها كان ذلك دالا على نجاستها . وروى ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الأولى بالتراب " وحدوث الطهارة في الشيء إنما تكون بعد تقديم نجاسة وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على قوم فامتنع من الدخول عليهم ، فقيل له في ذلك : فقال : لأن عندهم كلبا قيل : فإنك تدخل على فلان وعندهم هر فقال : إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات " فكان تعليله للهر أنها ليست بنجس دليلا على أن الكلب نجس ، ويدل على نجاسة سؤره من طريق المعنى مع حديث أبي هريرة المتقدم أنه مائع ورد الشرع بإراقته فوجب أن يكون نجسا كالخمر ، لأنه غسل بالمائعات موضع الإصابة فوجب أن يكون غسل نجاسته قياسا على ما حلته نجاسة : لأن غسل التعبد مختص بالأبدان وغسل الأواني مختص بالنجاسة ، ولأنه لو كان للتعبد لما أمر بإراقة المائع ما فيه من إضاعة المال ، وقد يكون مكان الماء ما هو أكثر ثمنا من الماء .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بإباحة الاصطياد به فهو أنه لا دليل فيه : لأن النجس قد يجوز الانتفاع به في حال كالميتة ، وأما موضع فمه من الصيد فقد اختلف أصحابنا فيه فذهب جمهورهم إلى نجاسته وتفرد بعضهم بطهارته : لأن الآية وردت بالإباحة ، فلو حكم بتنجيس ما أصابه بفمه لخرجت عن الإباحة إلى الحظر : لأن لعابه يسري فيما عضه من الصيد ، فلا يمكن غسله فصار معفوا عنه ، وليس ينكر أن يعفى عن شيء من النجاسة للحوق المشقة في إزالته كدم البراغيث وأثر الاستنجاء ، وأما الجواب عن الخبر فهو أن الحياض كثيرة الماء في الغالب وتنجيسها بالولوغ لا يحصل ، ثم الولوغ فيها ، ولو كانت قليلة المياه شك ، والشك لا يوجب التنجيس ، وأما قياسهم على الفهد والنمر ، فالمعنى فيه أنه لا يلزم غسل الإناء من ولوغه ، وأما استدلالهم بأن الحياة علة الطهارة فغير صحيح : لأنه لما كان في بعض الأموات طاهرا جاز أن يكون في بعض الأحياء نجسا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية