مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز أن يستثني من التمر مدا : لأنه لا يدري كم المد من الحائط ، أسهم من ألف سهم أو من مائة أو أقل أو أكثر فهذا مجهول ، ولو استثني ربعه أو نخلات بعينها فجائز " .
قال الماوردي : وهذا صحيح . وجملة الاستثناء أنه لا يخلو حاله وحال ما بقي من البيع بعده من أربعة أقسام :
أحدها : أن يكون معلوما ، والمبيع بعده معلوما ، وهذا على ضربين : مشاع ومجوز . الاستثناء
[ ص: 202 ] فالمجوز : أن يقول بعتك ثمرة هذا الحائط إلا ثمرة هذه النخلات العشر بعينها ، فهذا بيع جائز باتفاق العلماء .
والمشاع : أن يقول بعتك ثمرة هذا الحائط إلا ربعها ، فهذا بيع صحيح ، ويكون المبيع ثلاثة أرباعها مشاعا .
وقال الأوزاعي : هذا بيع باطل : لأنه بيع على شرط الشركة . وهذا خطأ من وجهين :
أحدهما : أنه لو قال بعتك ثلاثة أرباعها صح ، وكذا فلو قال بعتكها إلا ربعها : لأن المعقود عليه في الحالتين ثلاثة أرباعها .
والثاني : أنه لو كان الاستثناء عشر المساكين جاز ، وإن كان مستحقا مجهول العين ، فأولى أن يجوز الاستثناء لنفسه لأن مستحقه معين .
والقسم الثاني : أن يكون الاستثناء مجهولا ، والمبيع بعده مجهولا ، وهو ضربان : مشاع ومجوز .
فالمشاع : أن يقول بعتك هذه الثمرة إلا قوت نفسي ، أو إلا ما يأكله عبيدي ، فهذا باطل باتفاق : لأن قدر قوته مجهول ، وما يأكله عبيده مجهول ، فصار المبيع الثاني مجهولا .
فإن قيل : فقد روي عن ابن عمر أنه باع حائطا ، واستثنى منه قوت غلمانه .
قيل : يحتمل أن يكون استثنى منه قدرا معلوما جعله قوت غلمانه .
وكذا لو قال : بعتك هذه الثمرة إلا عشر قواصر منها ، أو في كل يوم سلة من رطبها ، كان المبيع باطلا : للجهل بالمبيع الثاني .
وأما المجوز فهو أن تقول بعتك هذه الثمرة إلا عشر نخلات منها لا بعينها ، وهذا بيع باطل .
وقال مالك : إن كان قدر ثلث الثمرة فما دون جاز البيع ، وكان له عشر نخلات وسطاء . وهذا غلط : لأن الاستثناء يوقع جهالة في المبيع من وجهين :
أحدهما : أن ثمر النخل يختلف في القلة والكثرة .
والثاني : أن المستثنى غير مجوز ولا مشاع في الجملة ، وقد يجوز أن يهلك النخل إلا عدد ما استثنى ، فيختلفان في الباقي هل هو المبيع أو المستثنى ، وهذا من أكبر الجهالات غررا فكان ببطلان البيع أولى .
والقسم الثالث : أن يكون الاستثناء معلوما ، والمبيع بعده مجهولا ، وهو أن يقول : بعتك هذه الثمرة إلا صاعا منها ، فهذا باطل .
[ ص: 203 ] وقال مالك : هو بيع جائز : لأنه لما جاز استثناء ربعها ، والربع مجهول الكيل كان استثناء ما هو معلوم الكيل أولى بالجواز .
ودليلنا على فساده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " الثنيا في البيع وهو ما ذكرنا . " أنه نهى عن
ولأن هذا الاستثناء يوقع جهالة في البيع : لأنه لا يعلم قدر ما خرج بالاستثناء ، هل هو عشر أو ربع ، ولا ما بقي بعد الاستثناء ، هل هو تسعة أعشار أو أقل ، والمبيع إذا كان مجهولا بطل البيع . ولأنه يجوز أن تهلك الثمرة إلا قدر ما استثنيا ، فيختلفان هل هو المبيع أو المستثنى ، وإذا لم يتعين المبيع من المستثني كان باطلا ، وهذا مأمون في استثناء جزء شائع منها : لأن التالف منها والباقي فيها .
والقسم الرابع : أن يكون الاستثناء مجهولا والمبيع بعده معلوما ، وهو أن يقول بعتك من هذه الثمرة مائة صاع والباقي لي ، فإن علما أن ما فيها مائة صاع فصاعدا صح البيع إن أمكن كيل الثمرة ، وبطل إن لم يمكن كيلها ، ولا يصح الخرص فيها ، ولأن المبيع بالخرص لا يجوز ، لأنه تخمين وحدس ، وإنما يجوز في حق المساكين لأنه مواساة .
وإن لم يعلما أن ما في الثمرة مائة صاع كان البيع باطلا للجهل بوجود المبيع ، فلو كيلت من بعد فكانت مائة صاع فصاعدا لم يصح البيع بعد فساده . والله أعلم .