الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولا أكره من الآنية إلا الذهب والفضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال الأواني ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما كان من جنس الأثمان .

                                                                                                                                            والثاني : ما كان من غير جنس الأثمان ، فأما ما كان من جنس الأثمان فأواني الذهب والفضة واستعمالها حرام في الأكل والشرب وغيره .

                                                                                                                                            وقال دواد بن علي : إنما يحرم استعمالها في الشرب وحده دون الأكل وغيره استدلالا بحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم " . فلما خص الشرب بالذكر دل ذلك على اختصاصه بالتحريم .

                                                                                                                                            وبما روي عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أن حذيفة بن اليمان استسقى من دهقان بالمدائن ماء ، فسقاه في إناء من فضة ، فحذفه ثم اعتذر إلى القوم فقال : إني كنت نهيته أن تسقيني فيه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا خطيبا فقال : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تلبسوا الديباج والحرير فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة .

                                                                                                                                            ودليلنا رواية ابن سيرين ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة " وهذا نص : لأنه نهى عن الأكل وداود يجيزه ، ولأن [ ص: 77 ] الشرب فيه أصون استعمالا من الاغتسال منه ، فلما كان الشرب محرما ، وكان ما سواه أولى بالتحريم ، ولأن تحريم الشرب فيه لأحد معنيين : إما لما فيه من الخيلاء والكبر المفضي إلى البغضاء والمقت ، ولما فيه من انكسار قلوب الفقراء المفضي إلى التحاسد والتقاطع ، ووجود كل واحد من المعنيين فيما سوى الشرب من الاستعمال أكثر من وجوده في الشرب وكان بالتحريم أحق .

                                                                                                                                            وأما نصه على الشرب ينبه به على غيره من الاستعمال ، كما نص على الفضة ينبه به على الذهب .

                                                                                                                                            وأما قوله : " إنما يجرجر في جوفه نار جهنم " فالجرجرة : التصويت . قال الشاعر :


                                                                                                                                            وهو إذا جرجر بعد الهب جرجر في حنجره كالحب

                                                                                                                                            وقوله : نار جهنم . فالجرجرة يعني : سيصير يوم القيامة نارا فعبر عن الحال بالمآل كما قال تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا [ النساء : 10 ] . يعني : يصير يوم القيامة نارا .

                                                                                                                                            فإذا ثبت تحريم استعمالها فأكل فيها وتوضأ منها كان الطعام حلالا والوضوء جائزا وإنما يكون بالاستعمال عاصيا ، وإنما كان كذلك لأن النهي عنه لمعنى في الإناء لا لمعنى في الماء والطعام بخلاف الماء النجس الذي يختص النهي عنه لمعنى فيه لا في غيره ، والأصول مقررة على الفرق بين ورود النهي عن الشيء لمعنى فيه فتقتضي فساد المنهي عنه وبين وروده لمعنى في غيره فلا تقتضي فساد المنهي عنه ، كالنهي عن الصلاة في بقعة نجسة لما اختص لمعنى في البقعة بطلت ، وفي الدار المغصوبة لما اختص لمعنى في المالك لم يبطل والأولى : لمن أراد أن يتوقى المعصية بأكل ما في أواني الذهب والفضة أن يخرج الطعام والشراب منها ثم يأكله إن شاء " ولا يعصي به كما حكي أن فرقدا السبخي ، والحسن البصري حضرا وليمة بالبصرة فقدم إليهما طعام في إناء من فضة فقبض يده عن الأكل منه فأخذ الحسن الإناء وأكبه على الخوان وقال : كل الآن إن شئت .

                                                                                                                                            فأما اتخاذ أواني الذهب والفضة للادخار والزينة دون الاستعمال ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لاختصاص الاستعمال بالتحريم . [ ص: 78 ] والثاني : لا يجوز لأن ادخارها داع إلى استعمالها وما دعا إلى الحرام كان حراما ، كإمساك الخمر لما كان داعيا إلى تناولها كان الإمساك حراما .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية