الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : دلائل طهارة الماء

                                                                                                                                            والدلائل على طهارة الماء وجواز التطهير به آيتان :

                                                                                                                                            [ ص: 36 ] إحداهما : قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا ، والثانية : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، وسنتان :

                                                                                                                                            إحداهما : ما رواه راشد بن سعد ، عن أبي أمامة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه .

                                                                                                                                            والثانية : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة ، [ ص: 37 ] أن المغيرة بن أبي بردة ، أنه سمع أبا هريرة يقول : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا ، أنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . وروي في خبر آخر أن العركي قال : " إنا نركب في البحر في أرماث لنا " ، والعركي : الصياد . والأرماث : الخشب يضم بعضه إلى بعض فنركب عليها في البحر " . قال الشاعر :


                                                                                                                                            تمنيت من حبي بثينة أننا على رمث في البحر ليس لنا وفر

                                                                                                                                            قال الحميدي : قال الشافعي : " هذا الحديث نصف العلم الطهارة ، ولعمري إن هذا القول صحيح ، لأن هذا الحديث دل على طهارة ما ينبع من الأرض ، والآية دالة على طهارة ما نزل من السماء ، والماء لا يخلو من أن يكون نازلا من السماء أو نابعا من الأرض

                                                                                                                                            فصل : فأما الطهور الموصوف به الماء في الآية والخبر ، فهو صفة تزيد على الطاهر يتعدى التطهير منه لغيره ، فيكون معنى الطهور هو المطهر .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري والحسن ، وابن داود والأصم : إن الطهور بمعنى الطاهر لا يختص بزيادة التعدي .

                                                                                                                                            وفائدة هذا الخلاف تجويزهم إزالة الأنجاس بالمائعات الطاهرات واستدلوا بقوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ الإنسان : 2 ] . يعني طاهرا ؛ لأن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير به وقال جرير :

                                                                                                                                            [ ص: 38 ]

                                                                                                                                            إلى رجح الأكفال عد من الظبى     عذاب الثنايا ريقهن طهور

                                                                                                                                            يعني : طاهرا ، لأن ريقهن لا يكون مطهرا قالوا : ولأن كل فعول كان متعديا كان فاعله متعديا كالمقتول والقاتل ، وكل فاعل كان غير متعد كان فعوله غير متعد كالصبور والصابر ، فلما كان الطاهر غير متعد ، وجب أن يكون الطهور غير متعد ، قالوا : ولأن الطهور لو كان متعديا لما انطلق هذا الاسم عليه إلا بعد وجود التعدي منه ، كالقتول والضروب ، فلما انطلق اسم الطيور على الماء قبل وجود التطهر به ، علم أنه لم يسم به لتعدي الفعل منه ، بل للزوم ، والصفة له أي الوصف ، قالوا : ولأن الطهور لو كان متعديا لوجب أن يتكرر فعل التطهير منه كالقتول والضروب ، فلما لم يتكرر منه لأنه يصير بالمرة الواحدة مستعملا علم أنه غير متعد .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به [ الأنفال : 11 ] فأخبر أن الماء يتطهر به ، وهذه عبارة عن تعدي الفعل منه ، فقال عليه السلام في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته جوابا عن سؤالهم في تعدي فعله إليهم إذ قد علموا طهارته قبل سؤالهم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أعطيت خمسا لم يعطهن قبلي نبي " فذكر منها : " وجعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا " يعني مطهرا ، لأنه قد كان طاهرا على محمد وغيره ، وإنما افتخر بما خص به من زيادة التطهير به . وقال عليه السلام : " دباغها طهورها " : أي مطهرها .

                                                                                                                                            وقال : " طهور إناء أحدكم " أي : مطهره ، فكانت هذه الظواهر الشرعية كلها دلالة على أن الطهور بمعنى مطهر ، وكذا في كل ما ورد به الشرع .

                                                                                                                                            وأما من طريق اللغة فهو أن فعول أبلغ في اللغة من فاعل ، فلما اختص قولهم : طهور ، بما يكون منه التطهير من الماء والتراب دون ما كان طاهرا من الخشب والثياب على أن الفرق بينهما في المبالغة تعدي الطهور ، ولزوم الطاهر ، ولأن ما أمكن الفرق بين فعوله وفاعله بالتكرار ، لم يفرق بينهما بالتعدي ، كالقتول والقاتل ، وما لم يمكن الفرق بينهما بالتكرار فرق بينهما بالتعدي ، وليس يمكن الفرق بين طهور وطاهر بتكرار الفعل فبان الفرق بينهما بالتعدي .

                                                                                                                                            فأما استدلالهم بالآية فالجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 39 ] أحدهما : أن هذه صفة للماء ، فلم يمنع منها عدم الحاجة من أهل الجنة إلى التطهير به .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن المقصود بالآية الامتنان بما أعده الله تعالى لخلقه في الجنة مما هو أعز مشروبا في الدنيا .

                                                                                                                                            وأما قول جرير فهو دليل لنا ، لأنه قصد به المدح لريقهن بالطهور به مبالغة ، ولو كان معناه طاهرا لما كان مادحا ، لأن ريق البهائم طاهر أيضا ، وإنما بالغ بأن جعله مطهرا تشبيها بالماء .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن كل فعول كان متعديا كان فاعله متعديا .

                                                                                                                                            فالجواب عنه أنه إنما سوى بينهما في التعدي إذا أمكن الفرق بينهما من غير التعدي ، وليس يمكن الفرق بين الطهور والطاهر من غير التعدي . فثبت أن الفرق بينهما من جهة التعدي .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إنه لو كان متعديا لم ينطلق الاسم عليه إلا بعد وجود التعدي منه ، فهو أنه يجوز أن يسمى بصفة قد توجد في الباقي منه كقولهم : طعام مشبع ، وماء مروي ، نار محرقة ، وسيف قاطع .

                                                                                                                                            وأما قوله : لو كان متعديا لتكرر الفعل منه .

                                                                                                                                            فالجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن هذه صفة لجنس الماء ، وجنس الماء يتكرر منه فعل الطهارة .

                                                                                                                                            والثاني : أن كل جزء من الماء يتكرر منه الفعل في إمراره على العضو وانتقاله من محل إلى محل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية