فصل : فإذا تقرر ما وصفناه من سنن الأذان والإقامة واستقبال القبلة بهما اتباعا لمؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولرواية هشام بن زياد عن محمد بن كعب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن لكل شيء شرفا وإن شرف المجلس ما استقبل به القبلة وإنما تجالسون بالأمانة ولأن الأذان دعاء إلى جهة القبلة فاقتضى أن يكون من سنته التوجه إليها
والفرق بينه وبين الخطبة حيث استقبل بها الناس واستدبر بها القبلة أن الخطبة موعظة وتخويف للمحاضرين ، فكان من إجمال عشرتهم الإقبال عليهم والأذان إعلام لمن بعد ودعاء لمن غاب ممن في سائر الجهات ، فكان من سنته فأما المؤذن في المنارة إذا أراد الطواف في مجالها فقد كانت المنارة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه من بعده مربعة لا مجال لها ، حتى أحدث المنارة المدور استقبال القبلة ، عبيد الله بن زياد بالبصرة والكوفة ، فإن كان البلد لطيفا والعدد يسيرا فليس للمؤذن أن يدور في مجالها لما فيه من ترك استقبال القبلة من غير حاجة داعية ، ووقف إلى جهة القبلة حتى ينتهي أذانه وإن كان البلد واسعا ، والعدد كثيرا كالبصرة ففي جواز طوافه في مجالها وجهان لأصحابنا :
أحدهما : لا يجوز لما ذكرنا
والثاني : يجوز لما فيه من زيادة الإبلاغ والتسوية بين الجهات وإن عدا الأمصار أقروا [ ص: 42 ] المؤذنين عليه ولم ينكروه ، ولكن لا يطوف إلا في قوله " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " ، وهو الموضع الذي يلتفت فيه يمينا وشمالا ، فلو فقد أساء وأجزأه خالف المؤذن واستدبر القبلة بأذانه
فإن قيل : فقد شرع في الخطبة استقبال جهة ولو استدبرها لم يجزه ، وشرع في الأذان استقبال جهة ولو استدبرها أجزأه فما الفرق بينهما ؟ قيل : من أصحابنا من جمع بينهما فقال : يجزيه من الخطبة كما يجزئه من الأذان والذي عليه جمهور أصحابنا أنه لا يجزئه في الخطبة بخلاف الأذان
والفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن الخطبة لما كانت فرضا كان استقبال الجهة المشروعة فيها فرضا ، والأذان لما كان سنة كان استقبال الجهة المشروعة فيه سنة
والثاني : أن في العدول عن الجهة المشروعة في الخطبة عدولا عن أهلها المقصودين بها وليس في العدول عن الجهة المشروعة في الأذان عدول عن أهله المقصودين به