مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " فإن نوى السفر ، فأقام أربعة أيام أتم الصلاة ، واحتج فيمن أقام أربعة يتم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وبأن يقيم المهاجر النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمنى ثلاثا يقصر ، وقدم مكة ، فأقام قبل خروجه إلى عرفة ثلاثا يقصر ، ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه : لأنه كان فيه سائرا ، ولا يوم التروية الذي خرج فيه سائرا ، وأن عمر أجلى أهل الذمة من الحجاز ، وضرب لمن يقدم منهم تاجرا مقام ثلاثة أيام ، فأشبه ما وصفت أن يكون ذلك مقام السفر ، وما جاوزه مقام الإقامة ، وروي عن عثمان بن عفان : من أقام أربعا أتم . وعن ابن المسيب : إقامة أربع أتم " .
قال الماوردي : وهذا كما قال .
وأما ، فلا خلاف بين الفقهاء أنه متى دخل ذلك البلد لم يجز له القصر لأن سفره قد انقطع بدخوله ، وإن لم ينو المقام فيه ، وكذلك إن المسافر إذا قصد بلدا ، وكان البلد غاية سفر لزمه أن يتم ، ولم يجز له أن يقصر ، فأما إذا استطاب بلدا في طريقه فنوى الاستيطان فيه ، فإن كانت تلك المدة دون أربعة أيام جاز له القصر ، وإن لم ينته سفره ، ولا نوى الاستيطان فيه لكن نوى أن يقيم فيه مدة ، واليوم الذي يخرج منه لزمه أن يتم لم يجز له أن يقصر ، وبه قال من الصحابة نوى مقام أربعة أيام سوى اليوم الذي دخل فيه عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، ومن التابعين سعيد بن المسيب ، ومن الفقهاء مالك .
وقال أبو حنيفة : يقصر إلا أن يجمع مقام خمسة عشر يوما ، وقد روي نحوه عن ابن عمر استدلالا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل مكة في حجة الوداع يوم الرابع من ذي الحجة ، وخرج منها يوم التروية ، وهو اليوم الثامن ، وكان يقصر بمكة .
فعلم أن الأربعة ليست حدا لمدة الإقامة .
قالوا : ولأنه تحديد لمدة الإقامة التي يتعلق بها إتمام الصلاة ، ولا يصار إليها إلا بالتوقيف ، والإجماع ، والتوقيف معدوم ، والإجماع حاصل في خمسة عشر يوما ، وما دونه مختلف فلم يجعله مدة للإقامة قالوا : ولأنها مدة يتعلق بها إلزام الصلاة فجاز أن يكون أقلها خمسة عشر يوما قياسا على أقل الطهر .
ودليلنا قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ ص: 372 ] [ النساء : 101 ] .
فأباح القصر بشرط الضرب ، والعازم على إقامة أربعة غير ضارب في الأرض ، فاقتضى أن لا يستبيح القصر ، ولأن الأربعة مدة الإقامة ، وما دونها مدة السفر ، لأن الله تعالى حين أوجب الهجرة حرم على من أسلم المقام بمكة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا ، فاستثنى الثلاث ، وجعلها مدة السفر ، فعلم أن ما زاد عليها مدة الإقامة ، وأجلى يقيم المهاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل الذمة عن الحجاز ، وجعل لمن قدم منهم تاجرا مقام ثلاثة أيام ، فدلت السنة ، والأثر على أن الثلاث ، وما فوقها حد الإقامة ، ولأنها أيام لا يستوعبها المسافر بالمسح الواحد فلم يجز القصر إذا أقامها كالخمسة عشر يوما ، ولأنها أيام تزيد على أقل الجمع فلم يكن فيها مسافرا ، ولا عازما كالخمسة عشر ، ولأنها مدة لا يجوز للذمي أن يقيمها في جزيرة العرب فصارت كالشهر . حد السفر
فأما استدلالهم بقصر النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع . فغير حجة لأنا نجيز القصر أربعا ، والنبي صلى الله عليه وسلم قصر ثلاثا سوى يوم دخوله ويوم خروجه ، فبطل استدلالهم به . أما قولهم : إن تحديد مدة القصر لا يصار إليها إلا بتوقف ، أو إجماع ، فالجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن هذا حجة عليهم لأن الخلاف في المسافر إلى كم يقصر ؟ وإجماعنا وإياهم منعقد على جوازه في الأربع والخلاف منه ، وفي الزيادة عليها فلم يجز القصر فيما زاد عليها إلا بتوقيف ، أو إجماع .
والجواب الثاني : أن معنا في المسألة توقيفا . وهو قوله : " بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا " . يقيم المهاجر
وأما قياسهم على أقل الطهر ، فلا يصح ، لأن أقل الطهر دون خمسة عشر يوما ، وهو أن تطهر من حيضها ، ثم تضع حملها بعد يوم ، وترى دم النفاس ، فيكون طهرها اليوم الذي بين حيضها ووضعها ، وإنما أقل الطهر خمسة عشر يوما إذا كان بين حيضين على إلزام الصلاة ، وإتمامها ، لا يتعلق بمدة ، وإنما يتعلق بالعزم على أن لا يعد . والله تعالى أعلم .