الفصل الرابع
في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار .
- وأما : فإنهم اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال مشهورة : أموال المسلمين التي تسترد من أيدي الكفار
أحدها : أن ما استرد المسلمون من أيدي الكفار من أموال المسلمين فهو لأربابها من المسلمين ، وليس للغزاة المستردين لذلك منها شيء ، وممن قال بهذا القول : وأصحابه الشافعي وأبو ثور .
والقول الثاني : أن ما استرد المسلمون من ذلك فهو غنيمة الجيش ليس لصاحبه منه شيء ، وهذا القول قاله ، الزهري ، وهو مروي عن وعمرو بن دينار علي بن أبي طالب .
والقول الثالث : أن ما وجد من أموال المسلمين قبل القسم فصاحبه أحق به بلا ثمن ، وما وجد من ذلك بعد القسم فصاحبه أحق به بالقيمة ، وهؤلاء انقسموا قسمين :
فبعضهم رأى هذا الرأي في كل ما استرده المسلمون من أيدي الكفار بأي وجه صار ذلك إلى أيدي الكفار ، وفي أي موضع صار ، وممن قال بهذا القول : مالك ، ، وجماعة ، وهو مروي عن والثوري . عمر بن الخطاب
وبعضهم فرق بين ما صار من ذلك إلى أيدي الكفار غلبة وحازوه حتى أوصلوه إلى دار المشركين ، وبين ما أخذ منهم قبل أن يحوزوه ويبلغوا به دار الشرك ، فقالوا : ما حازوه فحكمه إن ألفاه صاحبه قبل القسم فهو له ، وإن ألفاه بعد القسم فهو أحق به بالثمن . قالوا : وأما ما لم يحزه العدو بأن يبلغوا دارهم به فصاحبه أحق به قبل القسم وبعده ، وهذا هو القول الرابع .
واختلافهم راجع إلى اختلافهم في هل يملك الكفار على المسلمين أموالهم إذا غلبوهم عليها أم ليس يملكونها ؟ .
[ ص: 327 ] وسبب اختلافهم في هذه المسألة : تعارض الآثار في هذا الباب والقياس ، وذلك أن حديث يدل على أن المشركين ليس يملكون على المسلمين شيئا ، وهو قال : عمران بن حصين المدينة وأخذوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرأة من المسلمين ، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا ، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء ، فأتت ناقة ذلولا فركبتها ثم توجهت قبل المدينة ، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرها ، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته المرأة بنذرها ، فقال : " بئس ما جزيتها ، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم ، ولا نذر في معصية " . وكذلك يدل ظاهر حديث أغار المشركون على سرح على مثل هذا ، وهو أنه أغار له فرس فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون ، فردت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهما حديثان ثابتان . ابن عمر
وأما الأثر الذي يدل على ملك الكفار على المسلمين : فقوله عليه الصلاة والسلام : " عقيل من منزل " يعني : أنه باع دوره التي كانت له وهل ترك لنا بمكة بعد هجرته منها عليه الصلاة والسلام إلى المدينة .
وأما القياس : فإن من شبه الأموال بالرقاب قال : الكفار كما لا يملكون رقابهم ، فكذلك لا يملكون أموالهم ، كحال الباغي مع العادل ( أعني : أنه لا يملك عليهم الأمرين جميعا ) . ومن قال يملكون قال : من ليس يملك فهو ضامن للشيء إن فاتت عينه ، وقد أجمعوا على أن الكفار غير ضامنين لأموال المسلمين ، فلزم عن ذلك أن الكفار ليسوا بغير مالكين للأموال ، فهم مالكون ، إذ لو كانوا غير مالكين لضمنوا .
وأما من فرق بين الحكم قبل الغنم وبعده; وبين ما أخذه المشركون بغلبة أو بغير غلبة; بأن صار إليهم من تلقائه; مثل العبد الآبق والفرس العائد فليس له حظ من النظر ، وذلك أنه ليس يجد وسطا بين أن يقول : إما أن يملك المشرك على المسلم شيئا ، أو لا يملكه ، إلا أن يثبت في ذلك دليل سمعي ، لكن أصحاب هذا المذهب إنما صاروا إليه لحديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن عن طاوس ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون قد أصابوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك ، وإن أصبته بعد القسم أخذته بالقيمة " . لكن الحسن بن عمارة مجتمع على ضعفه وترك الاحتجاج به عند أهل الحديث .
والذي عول عليه مالك فيما أحسب من ذلك : هو قضاء عمر بذلك ، ولكن ليس يجعل له أخذه بالثمن بعد القسم على ظاهر حديثه ، واستثناء أبي حنيفة أم الولد والمدبر من سائر الأموال لا معنى له ، وذلك أنه يرى أن الكفار يملكون على المسلمين سائر الأموال ما عدا هذين ، وكذلك قول مالك في أم الولد أنه إذا أصابها مولاها بعد القسم أن على الإمام أن يفديها ; فإن لم يفعل أجبر سيدها على فدائها ; فإن لم يكن له مال أعطيت له ; واتبعه الذي أخرجت في نصيبه بقيمتها دينا متى أيسر ; هو قول أيضا ليس له حظ من النظر ، لأنه إن لم يملكها الكفار فقد يجب أن يأخذها بغير ثمن ، وإن ملكوها فلا سبيل له عليها ، وأيضا فإنه لا فرق بينها وبين سائر الأموال إلا أن يثبت في ذلك سماع .
ومن هذا الأصل ( أعني : من اختلافهم هل يملك المشرك مال المسلم أو لا يملك ؟ ) اختلف الفقهاء في هل يصح له أم لا ؟ فقال الكافر يسلم وبيده مال مسلم مالك ، وأبو حنيفة : يصح له . وقال على أصله : لا يصح له . الشافعي
[ ص: 328 ] واختلف مالك ، وأبو حنيفة إذا دخل مسلم إلى الكفار على جهة التلصص وأخذ مما في أيديهم مال مسلم . فقال أبو حنيفة : هو أولى به وإن أراده صاحبه أخذه بالثمن ، وقال مالك : هو لصاحبه ، فلم يجر على أصله .
ومن هذا الباب اختلافهم في الحربي يسلم ويهاجر ويترك في دار الحرب ولده وزوجه وماله ; هل يكون لما ترك حرمة مال المسلم وزوجه وذريته فلا يجوز تملكهم للمسلمين إن غلبوا على ذلك ; أم ليس لما ترك حرمة ؟ فمنهم من قال : لكل ما ترك حرمة الإسلام . ومنهم من قال : ليس له حرمة . ومنهم من فرق بين المال والزوجة والولد ، فقال : ليس للمال حرمة ، وللولد والزوجة حرمة ، وهذا جار على غير قياس ، وهو قول مالك .
والأصل أن المبيح للمال هو الكفر ، وأن العاصم له هو الإسلام ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " " . فمن زعم أن هاهنا مبيحا للمال غير الكفر من تملك عدو أو غيره فعليه الدليل ، وليس هاهنا دليل تعارض به هذه القاعدة ، والله أعلم . فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم