الباب الثاني فيما يكون به الصيد .  
- والأصل في هذا الباب آيتان وحديثان :  
الآية الأولى : قوله تعالى : (  ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم      ) .  
والثانية : قوله تعالى : (  قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين      ) الآية .  
وأما الحديثان :  
فأحدهما : حديث   عدي بن حاتم     : وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : "  إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك ، وإن أكل الكلب فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ، وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره     " . وسأله عن المعراض فقال : "  إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ     " . وهذا الحديث هو أصل في أكثر ما في هذا الكتاب .  
والحديث الثاني : حديث   أبي ثعلبة الخشني  ، وفيه من قوله عليه الصلاة والسلام : "  ما أصبت بقوسك فسم الله ثم كل ، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل ، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل     " . وهذان الحديثان اتفق أهل الصحيح على إخراجهما .  
 [ ص: 375 ] والآلات التي يصاد بها      : منها ما اتفقوا عليها بالجملة ، ومنها ما اختلفوا فيها وفي صفاتها ، وهي ثلاث : حيوان جارح ، ومحدد ومثقل .  
فأما المحدد : فاتفقوا عليه كالرماح والسيوف والسهام ، للنص عليها في الكتاب والسنة . وكذلك بما جرى مجراها مما يعقر ، ما عدا الأشياء التي اختلفوا في عملها في ذكاة الحيوان الإنسي ، وهي : السن والظفر والعظم . وقد تقدم اختلافهم في ذلك ، فلا معنى لإعادته .  
وأما المثقل : فاختلفوا في الصيد به ، مثل  الصيد بالمعراض والحجر   ، فمن العلماء من لم يجز من ذلك إلا ما أدركت ذكاته ، ومنهم من أجازه على الإطلاق ، ومنهم من فرق بين ما قتله المعراض أو الحجر بثقله أو بحده إذا خرق جسد الصيد ; فأجازه إذا خرق ، ولم يجزه إذا لم يخرق ، وبهذا القول قال مشاهير فقهاء الأمصار :   الشافعي  ،  ومالك  ،  وأبو حنيفة  ،  وأحمد  ،   والثوري  ، وغيرهم ، وهو راجع إلى أنه لا ذكاة إلا بمحدد .  
وسبب اختلافهم : معارضة الأصول في هذا الباب بعضها بعضا ، ومعارضة الأثر لها ، وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع ، ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد .  
فمن رأى أن ما قتل المعراض وقيذ منعه على الإطلاق . ومن رآه عقرا مختصا بالصيد ; وأن الوقيذ غير معتبر فيه أجازه على الإطلاق . ومن فرق بين ما خرق من ذلك أو لم يخرق فمصيرا إلى حديث   عدي بن حاتم  المتقدم ، وهو الصواب .  
وأما  الحيوان الجارح      : فالاتفاق والاختلاف فيه : منه متعلق بالنوع والشرط ، ومنه ما يتعلق بالشرط .  
فأما النوع الذي اتفقوا عليه : فهو الكلاب ، ما عدا الكلب الأسود ، فإنه كرهه قوم منهم :   الحسن البصري   وإبراهيم النخعي  ،  وقتادة     . وقال  أحمد     : ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما ، وبه قال  إسحاق     . وأما الجمهور فعلى إجازة صيده إذا كان معلما .  
وسبب اختلافهم : معارضة القياس للعموم ، وذلك أن عموم قوله تعالى : (  وما علمتم من الجوارح مكلبين      ) يقتضي تسوية جميع الكلاب في ذلك . " وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل الكلب الأسود البهيم " يقتضي في ذلك القياس أن لا يجوز اصطياده على رأي من رأى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه .  
وأما الذي اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ، ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية : فمنهم من أجاز جميعها إذا علمت حتى السنور ، كما قال   ابن شعبان  ، وهو مذهب  مالك  وأصحابه ، وبه قال فقهاء الأمصار ، وهو مروي عن   ابن عباس     ( أعني : أن ما قبل التعليم من جميع الجوارح فهو آلة لذكاة الصيد ) . وقال قوم : لا اصطياد بجارح ما عدا الكلب ، لا باز ، ولا صقر ، ولا غير ذلك ; إلا ما أدركت ذكاته ، وهو قول  مجاهد     . واستثنى بعضهم من الطيور الجارحة البازي فقط فقال : يجوز صيده وحده .  
وسبب اختلافهم في هذا الباب شيئان :  
أحدهما : قياس سائر الجوارح على الكلاب . وذلك أنه قد يظن أن النص إنما ورد في الكلاب أعني : قوله تعالى : (  وما علمتم من الجوارح مكلبين      ) ، إلا أن يتأول أن لفظة مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب ، ويدل على هذا عموم اسم الجوارح الذي في الآية ، فعلى هذا يكون سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظة مكلبين .  
 [ ص: 376 ] والسبب الثاني : هل من شرط الإمساك الإمساك على صاحبه أم لا ؟ وإن كان من شرطه فهل يوجد في غير الكلب أو لا يوجد ؟ .  
فمن قال : لا يقاس سائر الجوارح على الكلاب ; وأن لفظة مكلبين هي مشتقة من اسم الكلب لا من اسم غير الكلب ; أو أنه لا يوجد الإمساك إلا في الكلب ( أعني : على صاحبه ) وأن ذلك شرط ، قال : لا يصاد بجارح سوى الكلب .  
ومن قاس على الكلب سائر الجوارح ، ولم يشترط في الإمساك الإمساك على صاحبه قال : يجوز صيد سائر الجوارح إذا قبلت التعليم .  
وأما من استثنى من ذلك البازي فقط فمصيرا إلى ما روي عن   عدي بن حاتم  أنه قال : "  سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : ما أمسك عليك فكل     " . خرجه  الترمذي     .  
فهذه هي أسباب اتفاقهم واختلافهم في أنواع الجوارح .  
وأما  الشروط المشترطة في الجوارح      : فإن منها ما اتفقوا عليه ، وهو التعليم بالجملة ، لقوله تعالى : (  وما علمتم من الجوارح مكلبين      ) ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "  إذا أرسلت كلبك المعلم     " . واختلفوا في  صفة التعليم وشروطه   ، فقال قوم : التعليم ثلاثة أصناف :  
أحدها : أن تدعو الجارح فيجيب .  
والثاني : أن تشليه فينشلي .  
والثالث أن تزجره فيزدجر . ولا خلاف بينهم في اشتراط هذه الثلاثة في الكلب ، وإنما اختلفوا في اشتراط الانزجار في سائر الجوارح .  
فاختلفوا أيضا في : هل من شرطه أن لا يأكل الجارح ؟ فمنهم من اشترطه على الإطلاق ، ومنهم من اشترطه في الكلب فقط . وقول  مالك     : إن هذه الشروط الثلاثة شرط في الكلاب وغيرها . وقال  ابن حبيب  من أصحابه : ليس يشترط الانزجار فيما ليس يقبل ذلك من الجوارح مثل البزاة والصقور ، وهو مذهب  مالك     ( أعني : أنه ليس من شرط الجارح لا كلب ولا غيره أن لا يأكل ) . واشترطه بعضهم في الكلب ، ولم يشترطه فيما عداه من جوارح الطيور ، ومنهم من اشترطه كما قلنا في الكل .  
والجمهور على جواز  أكل صيد البازي والصقر وإن أكل   ، لأن تضريته إنما تكون بالأكل ، فالخلاف في هذا الباب راجع إلى موضعين :  
أحدهما : هل من شرط التعليم أن ينزجر إذا زجر ؟ .  
والثاني : هل من شرطه ألا يأكل ؟ .  
وسبب الخلاف في اشتراط الأكل أو عدمه شيئان :  
أحدهما : اختلاف الآثار في ذلك .  
والثاني : هل إذا أكل فهو ممسك أم لا ؟  
فأما الآثار : فمنها حديث   عدي بن حاتم  المتقدم وفيه : "  فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه     " .  
 [ ص: 377 ] والحديث المعارض لهذا حديث   أبي ثعلبة الخشني  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "  إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فكل ، قلت : وإن أكل منه يا رسول الله ؟ قال : وإن أكل     " .  
فمن جمع بين الحديثين : بأن حمل حديث   عدي بن حاتم  على الندب ، وهذا على الجواز قال : ليس من شرطه ألا يأكل . ومن رجح حديث   عدي بن حاتم  إذ هو حديث متفق عليه ; وحديث  أبي ثعلبة  مختلف فيه ; ولذلك لم يخرجه الشيخان   البخاري  ومسلم  ، وقال : من شرط الإمساك أن لا يأكل بدليل الحديث المذكور قال : إن أكل الصيد لم يؤكل ، وبه قال   الشافعي  ،  وأبو حنيفة  ،  وأحمد  ،  وإسحاق  ،   والثوري  ، وهو قول   ابن عباس     .  
ورخص في أكل ما أكل الكلب كما قلنا :  مالك  ،  وسعيد بن مالك  ،   وابن عمر  وسليمان     . وقالت المالكية المتأخرة : إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة ، لأن نية الكلب غير معلومة ، وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه .  
وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب ، وهو قوله تعالى : (  فكلوا مما أمسكن عليكم      ) وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به ، وهو العادة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "  فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه     " .  
وأما اختلافهم في الازدجار : فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب ، لأن الكلب الذي لا يزدجر لا يسمى معلما باتفاق ، فأما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلمة أم لا ؟ ففيه التردد ، وهو سبب الخلاف .  
				
						
						
