الفصل الثاني
في ألفاظ الطلاق المقيدة
والطلاق المقيد لا يخلو من قسمين : إما تقييد اشتراط ، أو تقييد استثناء . والتقييد المشترط لا يخلو أن يعلق بمشيئة من له اختيار ، أو بوقوع فعل من الأفعال المستقبلة ، أو بخروج شيء مجهول العلم إلى الوجود على ما يدعيه المعلق للطلاق به مما لا يتوصل إلى علمه إلا بعد خروجه إلى الحس ، أو إلى [ ص: 458 ] الوجود ، أو بما لا سبيل إلى الوقوف عليه مما هو ممكن أن يكون أو لا يكون .
فأما : فإنه لا يخلو أن يعلقه بمشيئة الله ، أو بمشيئة مخلوق : تعليق الطلاق بالمشيئة
فإذا علقه بمشيئة الله وسواء علقه على جهة الشرط ( مثل أن يقول : أنت طالق إن شاء الله ) أو على جهة الاستثناء ( مثل أن يقول : أنت طالق إلا أن يشاء الله ) : فإن مالكا قال : لا يؤثر الاستثناء في الطلاق شيئا وهو واقع ولا بد . وقال أبو حنيفة : إذا استثنى المطلق مشيئة الله لم يقع الطلاق . والشافعي
وسبب الخلاف : هل يتعلق الاستثناء بالأفعال الحاضرة الواقعة كتعلقه بالأفعال المستقبلة أو لا يتعلق ؟ وذلك أن الطلاق هو فعل حاضر :
فمن قال لا يتعلق به قال : لا يؤثر الاستثناء ولا اشتراط المشيئة في الطلاق . ومن قال يتعلق به قال : يؤثر فيه .
وأما إن علق الطلاق بمشيئة من تصح مشيئته ، ويتوصل إلى علمها : فلا خلاف في مذهب مالك أن الطلاق يقف على اختيار الذي علق الطلاق بمشيئته .
وأما تعليق الطلاق بمشيئة من لا مشيئة له : ففيه خلاف في المذهب ، قيل : يلزمه الطلاق ، وقيل : لا يلزمه ، والصبي والمجنون داخلان في هذا المعنى .
فمن شبهه بطلاق الهزل ; وكان الطلاق بالهزل عنده يقع قال : يقع هذا الطلاق . ومن اعتبر وجود الشرط قال : لا يقع لأن الشرط قد عدم هاهنا .
وأما : فإن الأفعال التي يعلق بها توجد على ثلاثة أضرب : تعليق الطلاق بالأفعال المستقبلة
أحدها : ما يمكن أن يقع أو لا يقع على السواء ، كدخول الدار وقدوم زيد ، فهذا يقف وقوع الطلاق فيه على وجود الشرط بلا خلاف .
وأما ما لا بد من وقوعه كطلوع الشمس غدا ، فهذا يقع ناجزا عند مالك ، ويقف وقوعه عند الشافعي وأبي حنيفة على وجود الشرط . فمن شبهه بالشرط الممكن الوقوع قال : لا يقع إلا بوقوع الشرط . ومن شبهه بالوطء الواقع في الأجل بنكاح المتعة لكونه وطئا مستباحا إلى أجل قال : يقع الطلاق .
والثالث : هو الأغلب منه بحسب العادة وقوع الشرط ، وقد لا يقع كتعليق الطلاق بوضع الحمل ومجيء الحيض والطهر ، ففي ذلك روايتان عن مالك : إحداهما : وقوع الطلاق ناجزا . والثانية : وقوعه على وجود شرطه ، وهو الذي يأتي على مذهب أبي حنيفة . والشافعي
والقول بإنجاز الطلاق في هذا يضعف لأنه مشبه عنده بما يقع ولا بد ، والخلاف فيه قوي .
وأما : فإن كان لا سبيل إلى علمه مثل أن يقول : إن كان خلق الله اليوم في بحر القلزم حوتا بصفة كذا فأنت طالق ; فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الطلاق يقع في هذا ، وأما إن علقه بشيء يمكن أن يعلم بخروجه إلى الوجود مثل أن يقول : إن ولدت أنثى فأنت طالق ; فإن الطلاق يتوقف على خروج ذلك الشيء إلى الوجود . وأما إن حلف بالطلاق أنها تلد أنثى ، فإن الطلاق في الحين يقع عنده وإن ولدت أنثى ، وكان هذا من باب التغليظ ، والقياس يوجب أن يوقف الطلاق على خروج ذلك الشيء أو ضده . تعليق الطلاق بالشرط المجهول الوجود
[ ص: 459 ] ومن قول مالك إنه إذا أنه لا يحنث حتى يفعل ذلك الفعل ، وإذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط أن يفعل فعلا من الأفعال فإنه على الحنث حتى يفعل، ويوقف عنده عن وطء زوجته ، فإن امتنع عن ذلك الفعل أكثر من مدة أجل الإيلاء ضرب له أجل الإيلاء ، ولكن لا يقع عنده حتى يفوت الفعل إن كان مما يقع فوته . ومن العلماء من يرى أنه على بر حتى يفوت الفعل ، وإن كان مما لا يفوت كان على البر حتى يموت . أوجب الطلاق على نفسه بشرط ترك فعل من الأفعال
ومن هذا الباب اختلافهم في تبعيض المطلقة ، أو تبعيض الطلاق ، وإرداف الطلاق على الطلاق :
فأما مسألة تبعيض المطلقة : فإن مالكا قال : إذا طلقت عليه . وقال قال يدك أو رجلك أو شعرك طالق أبو حنيفة : لا تطلق إلا بذكر عضو يعبر به عن جملة البدن كالرأس والقلب والفرج ، وكذلك تطلق عنده إذا طلق الجزء منها ، مثل الثلث أو الربع . وقال داود : لا تطلق .
وكذلك إذا قال عند مالك : طلقتك نصف تطليقة طلقت ، لأن هذا كله عنده لا يتبعض . وعند المخالف إذا تبعض لم يقع .
وأما إذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، نسقا ، فإنه يكون ثلاثا عند مالك . وقال أبو حنيفة : يقع واحدة . والشافعي
فمن شبه تكرار اللفظ بلفظه بالعدد ( أعني : بقوله طلقتك ثلاثا ) قال : يقع الطلاق ثلاثا . ومن رأى أنه باللفظة الواحدة قد بانت منه قال : لا يقع عليها الثاني والثالث . ولا خلاف بين المسلمين في ارتدافه في الطلاق الرجعي .
وأما : فإنما يتصور في العدد فقط ، فإذا طلق أعدادا من الطلاق ، فلا يخلو من ثلاثة أحوال : الطلاق المقيد بالاستثناء
إما أن يستثني ذلك العدد بعينه ، مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، أو اثنتين إلا اثنتين . وإما أن يستثني ما هو أقل .
وإذا استثنى ما هو أقل : فإما أن يستثني ما هو أقل مما هو أكثر ، وإما أن يستثني ما هو أكثر مما هو أقل :
فإذا استثنى الأقل من الأكثر ; فلا خلاف أعلمه أن الاستثناء يصح ويسقط المستثنى ، مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة .
وأما إن استثنى الأكثر من الأقل فيتوجه فيه قولان :
أحدهما : أن الاستثناء لا يصح ، وهو مبني على منع أن يستثنى الأكثر من الأقل .
والآخر : أن الاستثناء يصح ، وهو قول مالك .
وأما إذا استثنى ذلك العدد بعينه مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، فإن مالكا قال : يقع الطلاق ، لأنه اتهمه على أنه رجوع منه . وأما إذا لم يقل بالتهمة وكان قصده بذلك استحالة وقوع الطلاق فلا طلاق عليه ، كما لو قال : أنت طالق لا طالق معا ، فإن وقوع الشيء مع ضده مستحيل . وشذ ، فقال : لا يقع الطلاق بصفة لم تقع بعد ، ولا بفعل لم يقع ، لأن الطلاق لا يقع في وقت وقوعه إلا بإيقاع [ ص: 460 ] من يطلق في ذلك الوقت ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على وقوع طلاق في وقت لم يوقعه فيه المطلق ، وإنما ألزم نفسه إيقاعه فيه ، فإن قلنا باللزوم لزم أن يوقف عند ذلك الوقت حتى يوقع ، هذا قياس قوله عندي وحجته ، وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك . أبو محمد بن حزم