الجملة الثانية .  
في وقت ضمان المبيعات .  
واختلفوا في الوقت الذي يتضمن فيه المشتري المبيع أنى تكون خسارته إن هلك منه : فقال  أبو حنيفة  ،   والشافعي     : لا يضمن المشتري إلا بعد القبض .  
وأما  مالك  فله في ذلك تفصيل : وذلك أن المبيعات عنده في هذا الباب ثلاثة أقسام :  
بيع يجب على البائع فيه حق توفية من وزن ، أو كيل ، وعدد .  
وبيع ليس فيه حق توفية ، وهو الجزاف ، أو ما لا يوزن ، ولا يكال ، ولا يعد . فأما ما كان فيه حق توفية فلا يضمن المشتري إلا بعد القبض . وأما ما ليس فيه حق توفية وهو حاضر فلا خلاف في المذهب أن ضمانه من المشتري وإن لم يقبضه .  
وأما  المبيع الغائب      : فعن  مالك  في ذلك ثلاث روايات :  
أشهرها : أن الضمان من البائع إلا أن يشترطه على المبتاع .  
والثانية : أنه من المبتاع ، إلا أن يشترطه على البائع .  
 [ ص: 546 ] والثالثة : الفرق بين ما ليس بمأمون البقاء إلى وقت الاقتضاء كالحيوان والمأكولات ، وبين ما هو مأمون البقاء .  
والخلاف في هذه المسألة مبني هل على القبض شرط من شروط العقد ، أو حكم من أحكام العقد ، والعقد لازم دون القبض ؟ فمن قال  القبض من شروط صحة العقد   ، أو لزومه ، أو كيفما شئت أن تعبر في هذا المعنى كان الضمان عنده من البائع حتى يقبضه المشتري . ومن قال : هو حكم لازم من أحكام المبيع ، والبيع وقد انعقد ، ولزم قال : العقد يدخل في ضمان المشتري .  
وتفريق  مالك  بين الغائب والحاضر; والذي فيه حق توفية ، والذي ليس فيه حق توفية استحسان ، ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو التفات إلى المصلحة ، والعدل .  
وذهب أهل الظاهر إلى أن بالعقد يدخل في ضمان المشتري وفيما أحسب ، وعمدة من رأى ذلك اتفاقهم على أن الخراج قبل القبض للمشتري ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : "  الخراج بالضمان     " .  
وعمدة المخالف : حديث  عتاب بن أسيد  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى  مكة   قال له : "  انههم عن بيع ما لم يقبضوا وربح ما لم يضمنوا     " .  
وقد تكلمنا في شرط القبض في المبيع فيما سلف ، ولا خلاف بين المسلمين أنه من ضمان المشتري بعد القبض إلا في العهدة ، والجوائح . وإذ قد ذكرنا العهدة فينبغي أن نذكر هاهنا الجوائح .  
القول في الجوائح .  
اختلف العلماء في وضع  الجوائح في الثمار      : فقال بالقضاء بها  مالك  وأصحابه ، ومنعها  أبو حنيفة  ،   والثوري  ،   والشافعي  في قوله الجديد ،  والليث     .  
فعمدة من قال بوضعها : حديث  جابر  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "  من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا ، على ماذا يأخذ أحدكم مال أخيه  ؟ " خرجه  مسلم  ، عن  جابر     . وما روي عنه أنه قال : "  أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح     " . فعمدة من أجاز الجوائح : حديثا  جابر  هذان ، وقياس الشبه أيضا ، وذلك أنهم قالوا : إنه مبيع بقي على البائع فيه حق توفية ، بدليل ما عليه من سقيه إلى أن يكمل ، فوجب أن يكون ضمانه منه أصله سائر المبيعات التي بقي فيها حق توفية ، والفرق عندهم بين هذا المبيع ، وبين سائر البيوع أن هذا بيع وقع في الشرع ، والمبيع لم يكمل بعد ، فكأنه مستثنى من النهي عن بيع ما لم يخلق ، فوجب أن يكون في ضمانه مخالفا لسائر المبيعات .  
وأما عمدة من لم يقل بالقضاء بها : فتشبيه هذا البيع بسائر المبيعات وأن التخلية في هذا المبيع هو القبض .  
وقد اتفقوا على أن ضمان المبيعات بعد القبض من المشتري . ومن طريق السماع أيضا حديث   أبي سعيد الخدري  قال : "  أجيح رجل في ثمار ابتاعها وكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا عليه ، فتصدق عليه فلم يبلغ وفاء دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك     " ، قالوا : فلم يحكم بالجائحة .  
 [ ص: 547 ] فسبب الخلاف في هذه المسألة : هو تعارض الآثار فيهما وتعارض مقاييس الشبه ، وقد رام كل واحد من الفريقين صرف الحديث المعارض للحديث الذي هو الأصل عنده بالتأويل :  
فقال من منع الجائحة : يشبه أن يكون الأمر بها إنما ورد من قبل النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، قالوا : ويشهد لذلك أنه لما كثر شكواهم بالجوائح أمروا أن لا يبيعوا الثمر إلا بعد أن يبدو صلاحه ، وذلك في حديث   زيد بن ثابت  المشهور .  
وقال من أجازها في حديث  أبي سعيد     : يمكن أن يكون البائع عديما ، فلم يقض عليه بجائحة ، أو أن يكون المقدار الذي أصيب من الثمر مقدارا لا يلزم فيه جائحة ، أو أن يكون أصيب في غير الوقت الذي تجب فيه الجائحة ، مثل أن يصاب بعد الجذاذ أو بعد الطيب .  
وأما   الشافعي  فروى حديث  جابر  عن  سليمان بن عتيق  ، عن  جابر  ، وكان يضعفه ، ويقول : إنه اضطرب في ذكر وضع الجوائح فيه ، ولكنه قال : إن ثبت الحديث وجب وضعها في القليل والكثير .  
ولا خلاف بينهم في القضاء بالجائحة بالعطش ، وقد جعل القائلون بها اتفاقهم في هذا حجة على إثباتها .  
والكلام في أصول الجوائح على مذهب  مالك  ينحصر في أربعة فصول :  
الأول : في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح .  
الثاني : في محل الجوائح من المبيعات .  
الثالث : في مقدار ما يوضع منه فيه .  
الرابع : في الوقت الذي توضع فيه .  
				
						
						
