[ ص: 559 ] كتاب السلم .  
وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب :  
الباب الأول : في محله وشروطه .  
الباب الثاني : فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم ، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير .  
الباب الثالث : في اختلافهم في السلم .  
الباب الأول .  
في  محله   وشروطه .  
أما محله : فإنهم أجمعوا على جوازه في كل ما يكال ، أو يوزن ، لما ثبت من حديث   ابن عباس  المشهور قال : "  قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ، ووزن معلوم إلى أجل معلوم     " .  
واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة ، وهي الدور والعقار . وأما سائر ذلك من العروض والحيوان فاختلفوا فيها ، فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر مصيرا إلى ظاهر هذا الحديث . والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة ، والعدد .  
واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة ، فمن ذلك الحيوان والرقيق ، فذهب  مالك  ،   والشافعي  ،   والأوزاعي  ،  والليث  إلى أن السلم فيهما جائز ، وهو قول   ابن عمر  من الصحابة . وقال  أبو حنيفة  ،   والثوري  ،  وأهل  العراق       :  لا يجوز السلم في الحيوان ، وهو قول   ابن مسعود     . وعن  عمر  في ذلك قولان .  
وعمدة  أهل  العراق    في ذلك : ما روي عن   ابن عباس     : "  أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان     " ، وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول . وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة .  
وعمدة من أجاز السلم في الحيوان : ما روي عن   ابن عمر     : "  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا ، فنفدت الإبل ، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة ، فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة     " . وحديث  أبي رافع  أيضا : "  أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا     " . قالوا : وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة .  
فسبب اختلافهم شيئان :  
أحدهما : تعارض الآثار في هذا المعنى .  
والثاني : تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط .  
فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق ، والصفات وبخاصة صفات النفس قال : لا تنضبط . ومن نظر إلى تشابهها قال : تنضبط .  
ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك : فلم يجز  أبو حنيفة  السلم في البيض   ، وأجازه  مالك  بالعدد .  
 [ ص: 560 ] وكذلك في اللحم : أجازه  مالك  ،   والشافعي  ، ومنعه  أبو حنيفة     .  
وكذلك  السلم في الرءوس والأكارع      : أجازه  مالك  ، ومنعه  أبو حنيفة     . واختلف في ذلك قول  أبي حنيفة   والشافعي     . وكذلك  السلم في الدر والفصوص      : أجازه  مالك  ، ومنعه   الشافعي     .  
وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة للشريعة لا إحصاء الفروع; لأن ذلك غير منحصر .  
وأما  شروطه      : فمنها مجمع عليها ومنها مختلف فيها :  
أما المجمع عليها : فهي ستة :  
منها : أن يكون الثمن ، والمثمون مما يجوز فيه النساء ، وامتناعه فيما لا يجوز فيه النساء ، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه  مالك  رحمه الله ، وإما اتفاق الجنس على ما يراه  أبو حنيفة  ، وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه   الشافعي  في علة النساء .  
ومنها : أن يكون مقدرا إما بالكيل ، أو بالوزن ، أو بالعدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير ، أو منضبطا بالصفة إن كان مما المقصود منه الصفة .  
ومنها : أن يكون موجودا عند حلول الأجل .  
ومنها : أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا ، لئلا يكون من باب الكالئ بالكالئ ، هذا في الجملة .  
واختلفوا في  اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم   على أن لا يجوز في المدة الكثيرة ، ولا مطلقا ، فأجاز  مالك  اشتراط تأخير اليومين ، والثلاثة ، وأجاز تأخيره بلا شرط . وذهب  أبو حنيفة  إلى أن من شرطه التقابض في المجلس كالصرف ، فهذه ستة متفق عليها .  
واختلفوا في أربعة :  
أحدها : الأجل ، هل هو شرط فيه أم لا ؟  
والثاني : هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حال عقد السلم أم لا ؟  
والثالث : اشتراط مكان دفع المسلم فيه .  
والرابع : أن يكون الثمن مقدرا إما مكيلا ، وإما موزونا ، وإما معدودا ، وأن لا يكون جزافا .  
1 - فأما  الأجل      : فإن   أبا حنيفة  هو عنده شرط صحة بلا خلاف عنه في ذلك . وأما  مالك  ، فالظاهر من مذهبه ، والمشهور عنه أنه من شرط السلم ، وقد قيل : إنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحال . وأما  اللخمي  فإنه فصل الأمر في ذلك فقال : إن السلم في المذهب يكون على ضربين : سلم حال ، وهو الذي يكون من شأنه بيع تلك السلعة وسلم مؤجل ، وهو الذي يكون ممن ليس من شأنه بيع تلك السلعة .  
وعمدة من اشترط الأجل شيئان : ظاهر حديث   ابن عباس     . والثاني : أنه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه .  
وعمدة   الشافعي     : أنه إذا أجاز مع الأجل فهو حالا أجوز; لأنه أقل غررا ، وربما استدلت الشافعية بما روي : "  أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر ، فلما دخل البيت لم يجد التمر ، فاستقرض      [ ص: 561 ] النبي صلى الله عليه وسلم تمرا ، وأعطاه إياه     " . قالوا : فهذا هو شراء حال بتمر في الذمة .  
وللمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع الارتفاق ، ولأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه ، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة ، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى .  
واختلفوا في الأجل في موضعين :  
أحدهما : هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ ، والقطاف ، والحصاد ، والموسم ؟  
والثاني : في مقداره من الأيام .  
وتحصيل مذهب  مالك  في مقداره من الأيام : أن المسلم فيه على ضربين :  
ضرب يقتضى بالبلد المسلم فيه ، وضرب يقتضى بغير البلد الذي وقع فيه السلم :  
فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه : فقال  ابن القاسم     : إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق ، وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها . وروى  ابن وهب  عن  مالك     : أنه يجوز اليومين والثلاثة . وقال   ابن عبد الحكم     : لا بأس به إلى اليوم الواحد .  
وأما ما يقتضى ببلد آخر : فإن الأجل عندهم فيه هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أم كثرت ، وقالأبو حنيفة     : لا يكون أقل من ثلاثة أيام .  
فمن جعل الأجل شرطا غير معلل اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم . ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا .  
وأما الأجل إلى الجذاذ ، والحصاد وما أشبه ذلك فأجازه  مالك  ، ومنعه  أبو حنيفة  ،   والشافعي     .  
فمن رأى أن الاختلاف الذي يكون في أمثال هذه الآجال يسير أجاز ذلك; إذ الغرر اليسير معفو عنه في الشرع ، وشبهه بالاختلاف الذي يكون في الشهور من قبل الزيادة والنقصان . ومن رأى أنه كثير ، وأنه أكثر من الاختلاف الذي يكون من قبل نقصان الشهور وكمالها لم يجزه .  
2 - وأما اختلافهم في  هل من شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم      : فإن  مالكا  ،   والشافعي  ،  وأحمد  ،  وإسحاق  ،   وأبا ثور  لم يشترطوا ذلك ، وقالوا : يجوز السلم في غير وقت إبانه . وقال  أبو حنيفة  وأصحابه ،   والثوري  ،   والأوزاعي     : لا يجوز السلم إلا في إبان الشيء المسلم فيه .  
فحجة من لم يشترط الإبان ما ورد في حديث   ابن عباس  أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث ، فأقروا على ذلك ولم ينهوا عنه .  
وعمدة الحنفية : ما روي من حديث   ابن عمر  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "  لا تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها     " ، وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد ، وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر ، وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة ، وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق .  
3 - وأما الشرط الثالث ( وهو مكان القبض ) : فإن   أبا حنيفة  اشترطه تشبيها بالزمان ولم يشترطه غيره وهم الأكثر . وقال  القاضي أبو محمد     : الأفضل اشتراطه . وقال   ابن المواز     : ليس يحتاج إلى ذلك .  
4 - وأما الشرط الرابع ( وهو أن يكون الثمن مقدرا مكيلا ، أو موزونا ، أو معدودا ، أو مذروعا لا جزافا ) : فاشترط ذلك  أبو حنيفة  ، ولم يشترطه   الشافعي  ، ولا صاحبا  أبي حنيفة  أبو يوسف  ،  ومحمد  ، قالوا : وليس يحفظ عن  مالك   [ ص: 562 ] في ذلك نص ، إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف ، إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه .  
وينبغي أن تعلم أن  التقدير في السلم   يكون بالوزن فيما يمكن فيه الوزن ، وبالكيل فيما يمكن فيه الكيل ، وبالذرع فيما يمكن فيه الذرع ، وبالعدد فيما يمكن فيه العدد . وإن لم يكن فيه أحد هذه التقديرات انضبط بالصفات المقصودة من الجنس مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة ، أو مع تركه إن كان نوعا واحدا .  
ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة ، وأنه لا يكون في معين; وأجاز  مالك  السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة ، وكأنه رآها مثل الذمة .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					