أما المسألة الثانية : فصورتها أن يستحق إنسان شقصا في أرض قد بيع منها قبل وقت الاستحقاق شقص ما; هل له أن يأخذ بالشفعة أم لا ؟
فقال قوم : له ذلك; لأنه وجبت له الشفعة بتقدم شركته قبل البيع ، ولا فرق في ذلك كانت يده عليه أو لم تكن .
وقال قوم : لا تجب له الشفعة; لأنه إنما ثبت له مال الشركة يوم الاستحقاق ، قالوا : ألا ترى أنه لا يأخذ الغلة من المشتري .
فأما مالك فقال : إن طال الزمان فلا شفعة ، وإن لم يطل ففيه الشفعة ، وهو استحسان .
وأما متى يأخذ وهو له الشفعة ؟ فإن الذي له الشفعة رجلان حاضر أو غائب :
فأما الغائب : فأجمع له العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه . واختلفوا إذا علم وهو غائب : فقال قوم : تسقط شفعته . وقال قوم : لا تسقط ، وهو مذهب مالك .
والحجة له ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه قال : " الجار أحق بصقبه " . أو قال : " بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا " . وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة ، فوجب عذره .
وعمدة الفريق الثاني : أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها .
وأما الحاضر : فإن الفقهاء اختلفوا في وقت وجوب الشفعة له :
فقال الشافعي ، وأبو حنيفة : هي واجبة له على الفور بشرط العلم وإمكان الطلب ، فإن علم وأمكن الطلب ، ولم يطلب بطلت شفعته ، إلا أن أبا حنيفة قال : إن أشهد بالأخذ لم تبطل وإن تراخى .
وأما مالك : فليست عنده على الفور ، بل وقت وجوبها متسع ، واختلف قوله في هذا الوقت : هل هو محدود أم لا ؟ فمرة قال : هو غير محدود ، وأنها لا تنقطع أبدا إلا أن يحدث المبتاع بناء ، أو تغييرا كثيرا بمعرفته ، وهو حاضر عالم ساكت . ومرة حدد هذا الوقت ، فروي عنه السنة ، وهو الأشهر ، وقيل أكثر من سنة ، وقد قيل عنه : إن الخمسة أعوام لا تنقطع فيها الشفعة .
واحتج الشافعي بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " الشفعة كحل العقال " ، وقد روي عن الشافعي أن أمدها ثلاثة أيام .
وأما من لم يسقط الشفعة بالسكوت واعتمد على أن السكوت لا يبطل حق امرئ مسلم ما لم يظهر من قرائن أحواله ما يدل على إسقاطه ، وكان هذا أشبه بأصول الشافعي ; لأن عنده أنه ليس يجب أن ينسب إلى ساكت قول قائل ، وإن اقترنت به أحوال تدل على رضاه ، ولكنه فيما أحسب اعتمد الأثر ، فهذا هو القول [ ص: 610 ] في أركان الشفعة ، وشروطها المصححة لها ، وبقي القول في الأحكام .


