القول في أنواع الهبات
والهبة منها ما هي هبة عين ، ومنها ما هي هبة منفعة . وهبة العين منها ما يقصد بها الثواب ، ومنها ما لا يقصد بها الثواب . والتي يقصد بها الثواب منها ما يقصد بها وجه الله ، ومنها ما يقصد به وجه المخلوق .
فأما الهبة لغير الثواب فلا خلاف في جوازها ، وإنما اختلفوا في أحكامها .
وأما فاختلفوا فيها ، فأجازها هبة الثواب مالك وأبو حنيفة ; ومنعها ، وبه قال الشافعي داود . وأبو ثور
[ ص: 665 ] وسبب الخلاف هل هي بيع مجهول الثمن أو ليس بيعا مجهول الثمن ؟ فمن رآه بيعا مجهول الثمن قال هو من نوع بيوع الغرر التي لا تجوز ، ومن لم ير أنها بيع مجهول ، قال : يجوز وكأن مالكا جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها ، ولذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرض الواهب بالثواب ما الحكم ؟ فقيل تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب القيمة ، وقيل لا تلزمه إلا أن يرضيه ، وهو قول عمر على ما سيأتي بعد ، فإذا اشترط فيه الرضا فليس هنالك بيع انعقد ، والأول هو المشهور عن مالك . وأما إذا ألزم القيمة فهنالك بيع انعقد ، وإنما يحمل مالك الهبة على الثواب إذا اختلفوا في ذلك ، وخصوصا إذا دلت قرينة الحال على ذلك مثل أن يهب الفقير للغني ، أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب .
وأما هبات المنافع : فمنها ما هي مؤجلة ، وهذه تسمى عارية ومنحة وما أشبه ذلك ، ومنها ما يشترط فيها ما بقيت حياة الموهوب له ، وهذه تسمى ، مثل أن يهب رجل رجلا سكنى دار حياته ، وهذه اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال : العمرى
أحدها : أنها هبة مبتوتة : أي هبة للرقبة ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، ، والثوري وأحمد وجماعة .
والقول الثاني : أنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة ، فإذا مات عادت الرقبة للمعمر أو إلى ورثته ، وبه قال مالك وأصحابه ، وعنده أنه إن ذكر العقب عادت إذا انقطع العقب إلى المعمر أو إلى ورثته .
والقول الثالث : أنه إذا قال : هي عمرى لك ولعقبك كانت الرقبة ملكا للمعمر ، فإذا لم يذكر العقب عادت الرقبة بعد موت المعمر للمعمر أو لورثته ، وبه قال داود ، وأبو ثور .
وسبب الخلاف في هذا الباب اختلاف الآثار ، ومعارضة الشرط والعمل للأثر .
أما الأثر ففي ذلك حديثان :
أحدهما متفق على صحته ، وهو ما رواه مالك عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها ، لا ترجع إلى الذي أعطاها أبدا ; لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث
والحديث الثاني : حديث أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها فمن أعمر شيئا حياته فهو له حياته ومماته " . وقد روي عن يا معشر جابر بلفظ آخر : " " . لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو لورثته
فحديث أبي الزبير عن جابر مخالف لشرط المعمر . وحديث مالك عنه مخالف أيضا لشرط المعمر إلا أنه يخيل أنه أقل في المخالفة ، وذلك أن ذكر العقب يوهم تبتيت العطية .
فمن غلب الحديث على الشرط قال بحديث أبي الزبير عن جابر ، وحديث مالك عن جابر ، ومن غلب الشرط قال بقول مالك ، وأما من قال : إن العمرى تعود إلى المعمر إن لم يذكر العقب ، ولا تعود إن ذكر ، فإنه أخذ بظاهر الحديث . وأما حديث أبي الزبير عن جابر فمختلف فيه ( أعني : رواية أبي الزبير عن جابر ) .
وأما إذا أتى بلفظ الإسكان ، فقال : أسكنتك هذه الدار حياتك ، فالجمهور على أن الإسكان عندهم ، أو الإخدام بخلاف العمرى وإن لفظ بالعقب ، فسوى مالك بين التعمير والإسكان . وكان الحسن وعطاء [ ص: 666 ] وقتادة ، يسوون بين السكنى والتعمير في أنها لا تنصرف إلى المسكن أبدا على قول الجمهور في العمرى . والحق أن الإسكان والتعمير معنى المفهوم منهما واحد ، وأنه يجب أن يكون الحكم إذا صرح بالعقب مخالفا له إذا لم يصرح بذكر العقب على ما ذهب إليه أهل الظاهر .