فصل
وهذا الأصل يتضمن فوائد عظيمة :
منها : أنه يعطى قوة عظيمة في على منكريه ، من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ، ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع ; فلا يصح مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق - إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد ، وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور ، فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها ، وهو معنى القياس ، وتأيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم ، فانشرح الصدر لقبوله ، ولعل هذا يبسط في كتاب الأدلة بعد هذا إن شاء الله . إثبات القياس
ومنها : أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور ، وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة ، مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم ، ويرشحون ذلك بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب في زكاة كذا ; [ ص: 413 ] فقال : على مذهبنا أو على مذهبكم ؟ ثم قال : أما على مذهبنا ; فالكل لله ، وأما على مذهبكم ، فكذا وكذا ، وعند ذلك افترق الناس فيهم ، فمن مصدق بهذا الظاهر ، مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هي أعلى مما بث في الجمهور ، ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى والمخالفة للسنة ، وكلا الفريقين في طرف وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق ، كما تبين آنفا ، ولكن روح المسألة الفقه في الشريعة ، حتى يتبين ذلك ، والله المستعان .
ومن ذلك أن ; لأنهم ترقوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها ; فاستجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور ; فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه ، كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم ، واستجلاب النشاط في الطاعة ، لا على قصد التلهي ، وهذا استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها ، وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم ; فليعتن به ، وبالله التوفيق . باب فتحته الزنادقة بقولهم : إن [ ص: 414 ] التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص