فصل
وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التي يظن أن الحديث شامل لها ، وأنها مقصودة الدخول تحته; فإنه جاء في القرآن أشياء تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها; فهو آخذ في بدعة ، خارج عن مقتضى الشريعة ، وكذلك في الأحاديث الصحيحة ، فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها ، وربما ورد التعيين في بعضها ، كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج : . إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية
وفي رواية : ذا الخويصرة - ; فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، [ ص: 149 ] يمرقون من الإسلام . . . الحديث إلى أن قال : " دعه - يعني إلخ " . آيتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر . . .
فقد عرف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء ، وذكر لهم علامة في صاحبهم ، وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كليين :
أحدهما : ولا نظر في مقاصده ، ومعاقده ، والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول ، وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث ، " اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ، " ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ، ويضاد المشي على الصراط المستقيم ، ومن هنا ذم بعض العلماء رأي يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم وقال : إنها بدعة ظهرت بعد المائتين ، ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه السور والآيات ، وتعارضت في [ ص: 150 ] يديه الأدلة على الإطلاق والعموم . داود الظاهري ،
وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في " مشكل القرآن " وكتابه في " مشكل الحديث " يبين لك صحة هذا الإلزام; فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر .
والثاني : قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها; فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة ناجون ، وأن أهل الأوثان هالكون ، ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم ، فإذا كان النظر في الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد; صار صاحبه هادما لقواعدها ، وصادا عن سبيلها ، ومن تأمل كلامهم في مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وفي غيرها ظهر له خروجهم عن القصد ، وعدولهم عن الصواب ، وهدمهم للقواعد ، وكذلك مناظرتهم وابن عباس وأشباه ذلك . عمر بن عبد العزيز
فهذان وجهان ذكرا في الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعا للمتشابهات .
وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه; كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن ، وألا حرام إلا ما في قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ الأنعام : 145 ] [ ص: 151 ] وما سوى ذلك فحلال ، وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم ، وأن والعموم ، وأن الزاني لا يرجم بإطلاق ، والقاذف للرجال لا يحد ، وإنما يحد قاذف النساء خاصة ، وأن الجاهل معذور في أحكام الفروع بإطلاق ، وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة التقية لا تجوز في قول ، ولا فعل على الإطلاق محمد ، وأن المكلف قد يكون مطيعا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله ، وإنكارهم سورة يوسف من القرآن ، وأشباه ذلك ، وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية .
ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها ، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة ، ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة ، كما سترت عليهم قبائحهم; فلم يفضحوا في الدنيا بها في الحكم الغالب العام ، وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف ، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب [ ص: 152 ] أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة ، وكذلك في شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول منها وتركت غير المقبول ، وفي ذلك افتضاح المذنب ، إلى ما أشبه ذلك; فكثير من هذه الأشياء خصت بها هذه الأمة ، وقد قالت طائفة : إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم ، فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف .
وللستر حكمة أيضا وهي أنها لو أظهرت - مع أن أصحابها من الأمة - لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة ، وعدم الألفة التي أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ آل عمران : 103 ] وقال : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [ الأنفال : 1 ] وقال : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات [ آل عمران : 105 ] وقال : ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الروم : 31 - 32 ] وفي الحديث : [ ص: 153 ] وأمر عليه الصلاة والسلام لا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة ، وأنها تحلق الدين . بإصلاح ذات البين
[ ص: 154 ] والشريعة طافحة بهذا المعنى ، ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب " البر والصلة " وقد جاء في قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء الآية [ الأنعام : 159 ] أنه روي عن عائشة - وهذا حديث وأبي هريرة عائشة - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : هم أصحاب الأهواء ، وأصحاب البدع ، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة ، وأنا منهم بريء ، وهم مني برآء .
[ ص: 155 ] فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة; لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه; إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج ، فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها ، كما عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج وذكرهم بعلامتهم; حتى يعرفون ويحذر منهم . ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد ، وما سوى ذلك فالسكوت عن تعيينه أولى .
[ ص: 156 ] وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قرة ; قال : حذيفة بالمدائن ، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب ، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة; فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول; فيرجعون إلى حذيفة; فيقولون له : قد ذكرنا قولك لسلمان; فما صدقك ولا كذبك ، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة ، فقال : يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه ، ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه ، أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ، ورجالا بغض رجال ، وحتى توقع اختلافا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ، فقال : أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي; فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر . كان
[ ص: 157 ] فهذا من سلمان حسن من النظر; فهو جار في مسألتنا .
فإن قيل : والتحذير منهم والتشريد بهم ، وتقبيح ما هم عليه; فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز ؟ فالبدع مأمور باجتنابها ، واجتناب أهلها
فالجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في الجملة عليهم إلا القليل منهم كالخوارج ، ونبه على البدع من غير تفصيل ، وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة ، وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة ، ولم يصرح بالتعيين غالبا تصريحا لقطع العذر ، ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس; فنحن أولى بذلك معشر الأمة .
وما ذكره المتقدمون من ذلك فبحسب فحش تلك البدع ، وأنها لاحقة في جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم ، مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد; فهو [ ص: 158 ] ممكن أن يكون هو المراد في نفس الأمر أو بعضه ، فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد ، والأصل ما تقدم من الستر; حتى يظهر أمر فيكون له حكمه ، ويبقى النظر : هل هذا الظاهر من جملة ما يدخل تحت الحديث ، أم لا ؟ فهو موضع اجتهاد .
وأيضا; فإن البدع المحدثة تختلف; فليست كلها في مرتبة واحدة في الضلال ، ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة ، التي قال فيها مالك : التثويب ضلال .
وقد ، ولو كانت عندهم على سواء; لكانت قسما واحدا ، وإذا كان كذلك; فالبدع التي [ ص: 159 ] تفترق بها الأمة مختلفة الرتب في القبح ، وبسبب ذلك يظهر أنها كثيرة جدا ، وما في الحديث محصور; فيمكن أن يكون بعضها غير داخل في الحديث ، أو يكون بعضها جزءا من بدعة فوقها أعظم منها ، أو لا تكون داخلة من حيث هي عند العلماء من قبيل المكروه; فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه ، فلا يقدم على ذلك إلا ببرهان قاطع ، وهذا كالمعدوم فيها; فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها . قسم المتقدمون البدع إلى ما هو مكروه ، وإلى ما هو محرم
فإن قيل : فالعلماء يقولون خلاف هذا ، وإن الواجب هو التشريد بهم والزجر لهم ، والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين .
فالجواب : أن ذلك حكم فيهم كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرم كما يقتل تارك الصلاة ، وإن كان مقرا إلى ما دون ذلك ، وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث; فتوجه الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر .