فصل
ومن هذا يعلم أنه
nindex.php?page=treesubj&link=32106_18500_20381ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره ، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام ، بل ذلك ينقسم; فمنه ما هو مطلوب النشر ، وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص .
ومن ذلك تعيين هذه الفرق; فإنه وإن كان حقا فقد يثير فتنة كما تبين تقريره; فيكون من تلك الجهة ممنوعا بثه .
ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها; فإن الله ذم من اتبعها ، فإذا
[ ص: 168 ] ذكرت وعرضت للكلام فيها; فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه ، وقد جاء في الحديث عن
علي : حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله .
وفي الصحيح عن
معاذ أنه عليه الصلاة والسلام قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337921يا معاذ تدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله . . الحديث إلى أن قال : قلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس ، قال : لا تبشرهم فيتكلوا .
وفي حديث آخر عن
معاذ في مثله قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337922يا رسول الله أفلا أخبر بها فيستبشروا ؟ فقال : إذا يتكلوا ، قال أنس : فأخبر بها معاذ عند موته تأثما .
[ ص: 169 ] ونحو من هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب مع
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، انظره في كتاب
مسلم nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري; فإنه قال فيه
عمر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337923يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أبعثت nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد ألا إله إلا الله مستيقنا به قلبه بشره بالجنة ؟ قال : نعم ، قال : فلا تفعل; فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فخلهم .
وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف ، قال : لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل ، فقال : إن فلانا يقول : لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا ، فقال
عمر : لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم ،
[ ص: 170 ] قلت : لا تفعل; فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك; فأخاف ألا ينزلوها على وجهها; فيطيروا بها كل مطير ، وأمهل حتى تقدم
المدينة دار الهجرة ودار السنة ، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها ، فقال : والله لأقومن به في أول مقام أقومه
بالمدينة . الحديث .
ومنه حديث
سلمان مع
حذيفة وقد تقدم .
ومنه
nindex.php?page=treesubj&link=27243ألا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي ، بل يربي بصغار
[ ص: 171 ] العلم قبل كباره ، وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة في نظر الفقه ، كما ذكر
عز الدين بن عبد السلام في مسألة الدور في الطلاق لما يؤدي إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق ، وهو مفسدة .
من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات ، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ، ولذلك أنكرت
عائشة على من قالت : لم تقضي الحائض الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ وقالت لها : أحرورية أنت ؟ وقد ضرب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل ، وربما أوقع خبالا وفتنة وإن كان صحيحا وتلا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] فقال هذه الفاكهة فما الأب ؟ ثم قال : ما أمرنا بهذا .
إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر ، وإن كان حقا ، وقد أخبر
مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ، ولا حدث بها ، وكان
nindex.php?page=treesubj&link=32219_20381يكره الكلام فيما ليس تحته عمل ، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون
[ ص: 172 ] ذلك فتنبه لهذا المعنى .
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة; فإن صحت في ميزانها; فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله; فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول; فإن قبلتها; فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم ، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم ، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ; فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية .
فَصْلٌ
وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=32106_18500_20381لَيْسَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ مِمَّا هُوَ حَقٌّ يُطْلَبُ نَشْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَمِمَّا يُفِيدُ عِلْمًا بِالْأَحْكَامِ ، بَلْ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ; فَمِنْهُ مَا هُوَ مَطْلُوبُ النَّشْرِ ، وَهُوَ غَالِبُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ ، وَمِنْهُ مَا لَا يُطْلَبُ نَشْرُهُ بِإِطْلَاقٍ ، أَوْ لَا يُطْلَبُ نَشْرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالٍ أَوْ وَقْتٍ أَوْ شَخْصٍ .
وَمِنْ ذَلِكَ تَعْيِينُ هَذِهِ الْفِرَقِ; فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ يُثِيرُ فِتْنَةً كَمَا تَبَيَّنَ تَقْرِيرُهُ; فَيَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَمْنُوعًا بَثُّهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ عِلْمُ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْكَلَامُ فِيهَا; فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ مَنِ اتَّبَعَهَا ، فَإِذَا
[ ص: 168 ] ذُكِرَتْ وَعُرِضَتْ لِلْكَلَامِ فِيهَا; فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ
عَلِيٍّ : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ
مُعَاذٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337921يَا مُعَاذُ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ . . الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ ، قَالَ : لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ
مُعَاذٍ فِي مِثْلِهِ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337922يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا فَيَسْتَبْشِرُوا ؟ فَقَالَ : إِذًا يَتَّكِلُوا ، قَالَ أَنَسٌ : فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا .
[ ص: 169 ] وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ ، انْظُرُهُ فِي كِتَابِ
مُسْلِمٍ nindex.php?page=showalam&ids=12070وَالْبُخَارِيِّ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ
عُمَرُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337923يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَبَعَثْتَ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهِ قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَلَا تَفْعَلْ; فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَخَلِّهِمْ .
وَحَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=38عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ : لَوْ شَهِدْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ : لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلَانًا ، فَقَالَ
عُمَرُ : لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ ،
[ ص: 170 ] قُلْتُ : لَا تَفْعَلْ; فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَيَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ; فَأَخَافُ أَلَّا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا; فَيَطِيرُوا بِهَا كُلَّ مُطَيِّرٍ ، وَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدُمَ
الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ
بِالْمَدِينَةِ . الْحَدِيثَ .
وَمِنْهُ حَدِيثُ
سَلْمَانَ مَعَ
حُذَيْفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمِنْهُ
nindex.php?page=treesubj&link=27243أَلَّا يَذْكُرَ لِلْمُبْتَدِئِ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ حَظُّ الْمُنْتَهِي ، بَلْ يُرَبِّي بِصِغَارِ
[ ص: 171 ] الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ ، وَقَدْ فَرَضَ الْعُلَمَاءُ مَسَائِلَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْفُتْيَا بِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي نَظَرِ الْفِقْهِ ، كَمَا ذَكَرَ
عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الدَّوْرِ فِي الطَّلَاقِ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ رَفْعِ حُكْمِ الطَّلَاقِ بِإِطْلَاقٍ ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ .
مِنْ ذَلِكَ سُؤَالُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلَلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَحُكْمِ التَّشْرِيعَاتِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا عِلَلٌ صَحِيحَةٌ وَحِكَمٌ مُسْتَقِيمَةٌ ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَتْ
عَائِشَةُ عَلَى مَنْ قَالَتْ : لِمَ تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّوْمَ ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ وَقَالَتْ لَهَا : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ وَقَدْ ضَرَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَبِيغًا وَشَرَّدَ بِهِ لَمَّا كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ ، وَرُبَّمَا أَوْقَعَ خَبَالًا وَفِتْنَةً وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] فَقَالَ هَذِهِ الْفَاكِهَةُ فَمَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ قَالَ : مَا أُمِرْنَا بِهَذَا .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ يُبَثُّ وَيُنْشَرُ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا ، وَقَدْ أَخْبَرَ
مَالِكٌ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ عِنْدَهُ أَحَادِيثَ وَعِلْمًا مَا تَكَلَّمَ فِيهَا ، وَلَا حَدَّثَ بِهَا ، وَكَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=32219_20381يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ ، وَأُخْبِرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ
[ ص: 172 ] ذَلِكَ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى .
وَضَابِطُهُ أَنَّكَ تَعْرِضُ مَسْأَلَتَكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ; فَإِنْ صَحَّتْ فِي مِيزَانِهَا; فَانْظُرْ فِي مَآلِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ; فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذِكْرُهَا إِلَى مَفْسَدَةٍ فَاعْرِضْهَا فِي ذِهْنِكَ عَلَى الْعُقُولِ; فَإِنْ قَبِلَتْهَا; فَلَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِيهَا إِمَّا عَلَى الْعُمُومِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَإِمَّا عَلَى الْخُصُوصِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَائِقَةٍ بِالْعُمُومِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَتِكَ هَذَا الْمَسَاغُ; فَالسُّكُوتُ عَنْهَا هُوَ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ .