فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد شهدته في الموسم بعكاظ وهو على جمل له أحمر أو على ناقة حمراء وهو ينادي في الناس: أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا، واتعظوا تنتفعوا، من عاش مات [ ص: 103 ] ، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
أما بعد، فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا: نجوم تغور، ولا تغور، وبحار تفور، ولا تفور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وأنهار منبوع.
أقسم قس قسما بالله لا كذبا ولا إثما ليتبعن الأمر سخطا، ولئن كان في بعضه رضا، إن في بعضه لسخطا.
وما هذا باللعب، وإن من وراء هذا للعجب.
أقسم قس قسما بالله لا كذبا ولا إثما إن لله دينا هو أرضى له من دين نحن عليه.
ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنشد قس بن ساعدة أبياتا من الشعر لم أحفظها عنه".
فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: أنا حضرت ذلك المقام، وحفظت تلك المقالة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هي؟" فقال له قال أبو بكر: قس بن ساعدة في آخر كلامه:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها
يمضي الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي إلي
ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محالة
حيث صار القوم صائر
يا ناعي الموت، والأموات في جدث عليهم من بقايا ثوبهم خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم كما ينبه من نوماته الصعق
منهم عراة وموتى في ثيابهم منها الجديد ومنها الأورق الخلق
لم يذكر رضي الله عنه، ولم يذكر الوصية وهذا يتفرد به أبا بكر الصديق محمد بن الحجاج اللخمي، عن مجالد.
ومحمد بن الحجاج متروك.
[ ص: 105 ] وروي من وجه آخر عن بزيادات كثيرة؛ حدثنا ابن عباس أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى السلمي رحمه الله، قال: حدثنا أبو العباس الوليد بن سعيد بن حاتم بن عيسى الفسطاطي بمكة، من حفظه وزعم أن له خمسا وتسعين سنة في ذي الحجة سنة ست وستين وثلاثمائة على باب إبراهيم عليه السلام قال: أخبرنا محمد بن عيسى بن محمد الأخباري قال: أخبرنا أبي: عيسى بن محمد بن سعيد القرشي، قال: حدثنا علي بن سليمان، عن سليمان بن علي، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن قال: عبد الله بن عباس قدم الجارود بن عبد الله وكان سيدا في قومه، مطاعا عظيما في عشيرته، مطاع الأمر رفيع القدر، عظيم الخطر، ظاهر الأدب، شامخ الحسب، بديع الجمال، حسن الفعال، ذا منعة ومال في وفد عبد القيس من ذوي الأخطار والأقدار، والفضل والإحسان، والفصاحة والبرهان، كل رجل منهم كالنخلة السحوق، على ناقة كالفحل الفنيق قد جنبوا الجياد، وأعدوا للجلاد، مجدين في سيرهم، حازمين في أمرهم، يسيرون ذميلا، ويقطعون ميلا فميلا حتى أناخوا عند مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل الجارود على قومه والمشايخ من بني عمه، فقال: يا قوم، هذا محمد الأغر، سيد العرب، وخير ولد عبد المطلب، فإذا دخلتم عليه، ووقفتم بين يديه، فأحسنوا عليه السلام، وأقلوا عنده الكلام.
فقالوا بأجمعهم: أيها الملك الهمام والأسد الضرغام، لن نتكلم إذا حضرت ولن نجاوز إذا أمرت، فقل ما شئت، فإنا سامعون، واعمل ما شئت، فإنا تابعون.
فنهض الجارود في كل كمي صنديد، قد دوموا [ ص: 106 ] العمائم، وتردوا بالصمائم، يجرون أسيافهم ويسحبون أذيالهم، يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون مناقب الأخيار، لا يتكلمون طويلا، ولا يسكتون عيا، إن أمرهم ائتمروا، وإن زجرهم ازدجروا، كأنهم أسد غيل يقدمها ذو لبؤة مهول حتى مثلوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فلما دخل القوم المسجد، وأبصرهم أهل المشهد، دلف الجارود أمام النبي صلى الله عليه وسلم وحسر لثامه وأحسن سلامه، ثم أنشأ يقول:
يا نبي الهدى أتتك رجال قطعت فدفدا وآلا فآلا
وطوت نحوك الصحاصح طرا لا تخال الكلال فيك كلالا
كل دهماء يقصر الطرف عنها أرقلتها قلاصنا إرقالا
وطوتها الجياد تجمح فيها بكماة كأنجم تتلالا
تبتغي دفع بأس يوم عبوس أوجل القلب ذكره ثم هالا
قال: والله يا رسول الله، لقد أخطأ من أخطأك قصده، وعدم رشده، وتلك وايم الله أكبر خيبة، وأعظم حوبة، والرائد لا يكذب أهله، ولا يغش نفسه.
لقد جئت بالحق، ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبيا واختارك للمؤمنين وليا، لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول، وطول التحية لك والشكر لمن أكرمك وأرسلك، لا أثر بعد [ ص: 107 ] عين، ولا شك بعد يقين.
مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله.
قال: وآمن من قومه كل سيد، وسر النبي صلى الله عليه وسلم بهم سرورا، وابتهج حبورا، وقال: " يا جارود، هل في جماعة وفد فآمن الجارود، عبد القيس من يعرف لنا قسا؟ قال: كلنا نعرفه يا رسول الله، وأنا من بين قومي كنت أقفو أثره وأطلب خبره كان قس سبطا من أسباط العرب، صحيح النسب، فصيحا إذا خطب، ذا شيبة حسنة عمر سبعمائة سنة، يتقفر القفار، لا تكنه دار، ولا يقره قرار، يتحسى في تقفره بيض النعام، ويأنس بالوحش والهوام، يلبس المسوح ويتبع السياح على منهاج المسيح، لا يفتر من الرهبانية، مقر لله بالوحدانية، تضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال، وتتبعه الأبدال.
أدرك رأس الحواريين سمعان فهو أول من تأله من العرب وأعبد من تعبد في الحقب، وأيقن بالبعث والحساب وحذر سوء المنقلب والمآب، ووعظ بذكر الموت، وأمر بالعمل قبل الفوت، الحسن الألفاظ، الخاطب بسوق عكاظ، العالم بشرق وغرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، كأني أنظر إليه، والعرب بين يديه، يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله، وليوفين كل عامل عمله , ثم أنشأ يقول:
هاج للقلب من جواه ادكار وليال خلالهن نهار
ونجوم يحثها قمر الليل وشمس في كل يوم تدار
ضوءها يطمس العيون ورعاد شديد في الخافقين مطار
وغلام وأشمط ورضيع كلهم في التراب يوما يزار
وقصور مشيدة حوت الخير وأخرى خلت فهن قفار
وكثير مما يقصر عنه جوسة الناظر الذي لا يحار
والذي قد ذكرت دل على الله نفوسا لها هدى واعتبار
إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ليل داج، وسماء ذات أبراج وأرض ذات رتاج وبحار ذات أمواج.
مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا هناك فناموا؟ أقسم قس قسما حقا لا حانثا فيه ولا آثما إن لله تعالى دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيا قد حان حينه، وأظلكم أوانه، وأدرككم إبانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه , ثم قال: تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية.
يا [ ص: 109 ] معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيد؟ وزخرف ونجد؟ وغره المال والولد؟ أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال: أنا ربكم الأعلى ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأبعد منكم آمالا، وأطول منكم آجالا؟ طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خالية، عمرتها الذئاب العاوية، كلا، بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود , ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
فقام رجل من الأنصار بعده كأنه قطعة جبل، ذو هامة عظيمة، وقامة جسيمة، قد دوم عمامته، وأرخى ذؤابته، منيف أنوف أحدق أجش الصوت، فقال: يا سيد المرسلين، وصفوة رب العالمين، لقد رأيت من قس عجبا، وشهدت منه مرغبا.
فقال: "وما الذي رأيته منه وحفظته عنه" ؟ فقال: خرجت في الجاهلية أطلب بعيرا لي شرد مني كنت أقفو أثره وأطلب خبره في نتائف حقائف، ذات دعادع وزعازع، ليس بها للركب مقيل، ولا لغير الجن [ ص: 110 ] سبيل، وإذا أنا بموئل مهول في طود عظيم ليس به إلا البوم.
وأدركني الليل فولجته مذعورا لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي.
فبت بليل طويل، كأنه بليل موصول، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول:
يا أيها الراقد في الليل الأحم قد بعث الله نبيا في الحرم
من هاشم أهل الوفاء والكرم يجلو دجنات الدياجي والبهم
يا أيها الهاتف في داجي الظلم أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بين هداك الله في لحن الكلم ماذا الذي تدعو إليه يغتنم؟
قال: فذهلت عن البعير واكتنفني السرور، ولاح الصباح، واتسع الإيضاح، فتركت الموراء، وأخذت الجبل، فإذا أنا بالفنيق يستنشق النوق، فملكت خطامه، وعلوت سنامه، فخرج طاعة وهززته ساعة حتى إذا لغب , وذل منه ما صعب، وحميت الوسادة، وبردت المزادة، فإذا الزاد قد هش له الفؤاد تركته فترك، وأذنت له فبرك، في روضة خضرة , نضرة عطرة، ذات حوذان وقربان وعنقران وعبيثران وجلى وأقاح وجثجاث وبرار، وشقائق ونهار , كأنما قد بات الجو بها مطيرا، وباكرها المزن بكورا، فخلالها شجر، وقرارها نهر، فجعل يرتع أبا، وأصيد ضبا حتى إذا أكلت وأكل ونهلت ونهل، وعللت وعل , حللت عقاله، وعلوت جلاله، وأوسعت مجاله، فاغتنم الحملة ومر كالنبلة، يسبق الريح، ويقطع عرض الفسيح حتى أشرف بي على واد وشجر من شجر عاد مورقة مونقة، قد تهدل أغصانها كأنما بريرها حب فلفل، فدنوت فإذا أنا بقس بن ساعدة في ظل شجرة , بيده قضيب من أراك ينكت به الأرض وهو يترنم بشعر، وهو:
يا ناعي الموت والملحود في جدث عليهم من بقايا بزهم خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم فهم إذا أنبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعودوا لحال غير حالهم خلقا جديدا كما من قبله خلقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهم منها الجديد ومنها المنهج الخلق
فرجع , ثم ورد بعده.
فقلت له: ما هذان القبران؟ فقال: هذان قبرا أخوين لي كانا يعبدان الله تعالى معي في هذا المكان، لا يشركان بالله شيئا، فأدركهما الموت فقبرتهما، وهأنا بين قبريهما حتى ألحق بهما، ثم نظر إليهما، فتغرغرت عيناه بالدموع، فانكب عليهما وجعل يقول:
خليلي هبا طالما قد رقدتما أجدكما لا تقضيان كراكما
ألم تريا أني بسمعان مفرد ومالي فيها من خليل سواكما؟
مقيم على قبريكما لست بارحا طوال الليالي أو يجيب صداكما
أبكيكما طول الحياة وما الذي يرد على ذي عولة إن بكاكما؟
أمن طول نوم لا تجيبان داعيا كأن الذي يسقي العقار سقاكما
كأنكما والموت أقرب غاية بروحي في قبريكما قد أتاكما
فلو جعلت نفس لنفس وقاية لجدت بنفسي أن تكون فداكما