الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          990 - مسألة : وأما ما يسكن جوف الماء ولا يعيش إلا فيه فهو حلال كله كيفما وجد ، سواء أخذ حيا ثم مات أو مات في الماء ، طفا أو لم يطف ، أو قتله حيوان بحري أو بري هو كله حلال أكله . وسواء خنزير الماء ، أو إنسان الماء ، أو كلب الماء وغير ذلك كل ذلك حلال أكله : قتل كل ذلك وثني أو مسلم أو كتابي أو لم يقتله أحد .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك قول الله تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا } وقال تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة } فعم تعالى ولم يخص شيئا من شيء { وما كان ربك نسيا } فخالف أصحاب أبي حنيفة هذا كله وقالوا : يحل أكل ما مات من السمك وما جزر عنه الماء ما لم يطف على الماء مما مات في الماء حتف أنفه خاصة ، ولا يحل أكل ما طفا منه على الماء ، ولا يحل أكل شيء مما في الماء إلا السمك وحده ، ولا يحل أكل خنزير الماء ولا إنسان الماء ، واحتجوا في ذلك بأن قالوا : قد حرم الله أكل الخنزير جملة والإنسان وهذا خنزير وإنسان ، قالوا : فإن ضربه حوت فقتله أو ضربه طائر فقتله أو ضربته صخرة فقتلته أو صاده وثني فقتله فطفا بعد كل هذا فهو حلال أكله ، وقال محمد بن الحسن في سمكة ميتة بعضها في البر وبعضها في الماء : إن كان الرأس وحده خارج الماء أكلت وإن كان الرأس في الماء نظر فإن كان الذي في البر من مؤخرها النصف فأقل لم يحل أكلها وإن كان الذي في البر من مؤخرها أكثر من النصف حل أكلها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذه أقوال لا تعلم عن أحد من أهل الإسلام قبلهم وهي مخالفة للقرآن وللسنن ولأقوال العلماء وللقياس وللمعقول لأنها تكليف ما لا يطاق مما لا سبيل [ ص: 61 ] إلى علمه هل ماتت وهي طافية فيه أو ماتت قبل أن تطفو أو ماتت من ضربة حوت أو من صخرة منهدمة أو حتف أنفها ؟ ولا يعلم هذا إلا الله أو ملك موكل بذلك الحوت ، وما ندري لعل الجن لا سبيل لها إلى معرفة ذلك أم يمكنها علم ذلك لأن فيهم غواصين بلا شك ؟ قال تعالى : { ومن الشياطين من يغوصون له } ثم لا بد للسمكة التي شرع فيها محمد بن الحسن هذه الشريعة السخيفة من مذرع يذرع ما منها خارج الماء وما منها داخل الماء ثم ما يدريه البائس لعله كان أكثرها في الماء ، ثم أدارتها الأمواج فيا لله ويا للمسلمين لهذه الحماقات التي لا تشبه إلا ما يتطايب به المجان لإضحاك سخفاء الملوك ، والعجب كل العجب من قولهم في الأخبار الثابتة في أنه لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان : هذا زيادة على ما في القرآن فلا نأخذ بها إلا من طريق التواتر ، ثم لا يستحيون أن يزيدوا بمثل هذه العقول مثل هذه الزيادة على ما في القرآن . نحمد الله على السلامة في الدين والعقل كثيرا .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إنه قد حرم الخنزير والإنسان وهذا خنزير وإنسان ، وقد قال الليث بن سعد بهذا أيضا خاصة : فليس خنزيرا ولا إنسانا لأنها إنما هي تسمية من ليس حجة في اللغة وليست التسمية إلا لله تعالى ، ولو كان ذلك إلى الناس لكان من شاء أن يحل الحرام أحله بأن يسميه باسم شيء حلال ومن شاء أن يحرم الحلال حرمه بأن يسميه باسم شيء حرام ، فسقط قول هذه الطائفة سقوطا لا مرية فيه وبقي قول لبعض السلف في تحريم الطافي من السمك .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال : ما طفا فلا تأكلوه وما كان على حافتيه أو حسر عنه فكلوه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا إبراهيم هو ابن علية - نا أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال : ما حسر الماء عن ضفتي البحر فكل وما مات فيه طافيا فلا تأكل .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن فضيل أنا عطاء بن السائب عن ميسرة عن علي بن أبي طالب قال : ما طفا من صيد البحر فلا تأكلوه . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأجلح عن عبد الله بن أبي الهذيل أنه سمع ابن عباس وقد قال له رجل : إني أجد البحر وقد جعل سمكا قال : لا تأكل منه طافيا . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال : ما طفا من السمك فلا تأكله . [ ص: 62 ] وصح عن الحسن وابن سيرين وجابر بن زيد وإبراهيم النخعي أنهم كرهوا الطافي من السمك ، وبتحريمه يقول الحسن بن حي ، وروي عن سفيان الثوري فيما في البحر مما عدا السمك قولان ، أحدهما أنه يؤكل ، والآخر لا يؤكل حتى يذبح ، وههنا قول آخر رويناه من طريق وكيع قال : نا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم عن علي بن أبي طالب أنه كره صيد المجوس للسمك . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو بكر بن حفص عن ابن مسعود قال : ذكاة الحوت فك لحييه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما هذا القول وتقسيم أحد قولي الثوري فيبطلها كلها ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى نا أبو خيثمة هو زهير بن معاوية - عن أبي الزبير المكي حدثني جابر قال : { بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة ، قال أبو الزبير : فقلت لجابر : كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال : نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل وكنا نضرب بعصينا الخبط فنبله بالماء فنأكله قال : وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر قال أبو عبيدة : ميتة ، ثم قال : لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله تعالى وقد اضطررتم فكلوا فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن ونقتطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق ، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو رزق أخرجه الله تعالى لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فهذا ليس من السمك بل هو مما حرمه من ذكرنا وليس مما فكت لحياه بل هو ميتة وهذا هو الصحيح عن جابر لسماع أبي الزبير إياه منه ، وهذا بين فيه لقوله لجابر في التمرة كيف كنتم تصنعون بها ؟ وإذ ميتة البحر حلال فصيد الوثني وغيره له سواء لأنه لا يحتاج إلى ذكاة إنما ذكاته موته فقط ، وأما من حرم الطافي جملة فالرواية في [ ص: 63 ] ذلك عن جابر لا تصح لأن أبا الزبير لم يذكر فيه سماعا من جابر وهو ما لم يذكر ذلك فمدلس عنه كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ، وهي عن علي لا تصح لأن ابن فضيل لم يسمع من عطاء بن السائب إلا بعد اختلاطه ، وهي عن ابن عباس من طريق أجلح وليس بالقوي لكنه صحيح عن الحسن وابن سيرين وجابر بن زيد . واحتجوا بما رويناه من طريق أبي داود نا أحمد بن عبدة نا يحيى بن سليم الطائفي نا إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه } ومن طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن عياش حدثني عبد العزيز بن عبيد الله عن وهب بن كيسان ونعيم بن المجمر هو ابن عبد الله - عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقى وما وجدتموه طافيا من السمك فلا تأكلوه } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ما نعلم لهم حجة غير هذا وليس بحجة لأنه لا يصح ولو صح لما ترددنا طرفة عين في القول به إلا أن قبل كل شيء فهو لو صح حجة على أصحاب أبي حنيفة لأنهم مخالفون لما فيه ولكل ما روينا في ذلك عن صاحب أو تابع لأنهم يبيحون بعض الطافي إذا مات من عارض عرض له لا حتف أنفه ويحرمون كثيرا مما ألقى البحر أو حسر عنه فخالفوا الخبر في موضعين ، وكذلك من روي عنه في هذا شيء ، وأما ضعف هذين الخبرين ، فأحدهما من طريق إسماعيل بن عياش وهو ضعيف ، والآخر من رواية أبي الزبير عن جابر ولم يذكر فيه سماعا . نا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري نا عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي القاضي نا إسحاق بن أحمد الدخيل نا أبو جعفر العقيلي نا محمد بن إسماعيل وزكريا بن يحيى الحلواني قال زكريا : نا أحمد بن سعيد بن أبي مريم ، وقال محمد بن إسماعيل : نا الحسن بن علي ، ثم اتفق أحمد والحسن قالا جميعا : نا سعيد بن أبي مريم نا الليث بن سعد قال : جئت أبا الزبير فدفع إلي كتابين فقلت له : هذا كله سمعته من جابر فقال : منه ما سمعت منه ، ومنه ما حدثت عنه فقلت : أعلم لي على ما سمعت فأعلم لي على هذا الذي عندي .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فما لم يكن من رواية الليث عن أبي الزبير ولا قال فيه أبو الزبير أنه [ ص: 64 ] أخبره به جابر فلم يسمعه من جابر بإقراره ولا ندري عمن أخذه فلا يجوز الاحتجاج به ، وهذا من ذلك الخبر فسقط ونحمد الله تعالى على بيانه لنا .

                                                                                                                                                                                          وقد روي مثل قولنا عن طائفة من السلف . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال : أشهد على أبي بكر أنه قال : السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها . نا حمام نا الباجي نا ابن أيمن نا أحمد بن مسلم نا أبو ثور نا معلى نا أبو عوانة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا بكر الصديق قال : السمك كله ذكي ومن طريق سعيد بن منصور نا سفيان هو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : قال أبو بكر الصديق : طعام البحر كل ما فيه . ومن طريق وكيع نا همام هو ابن يحيى - عن قتادة عن جابر بن أبي الشعثاء قال : قال عمر بن الخطاب : الحيتان والجراد ذكي .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قال الله تعالى : { فالتقمه الحوت وهو مليم } فسمى ما يلتقم الإنسان في بلعة واحدة حوتا . وليس هذا من الصفة التي أحل أبو حنيفة ، وقد قال أبو بكر وعمر بإباحته ولا يعلم لهما في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ومن طريق سعيد بن منصور نا صالح بن موسى الطلحي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أنه سأل عن الحيتان والجراد ؟ فقال : الحيتان والجراد ذكي ذكاتهما صيدهما . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا منصور عن معاوية بن قرة أن أبا أيوب أكل سمكة طافية . ومن طريق أبي ثور نا معلى نا عبد الوارث بن سعيد التنوري نا أبو التياح عن ثمامة بن أنس بن مالك أن أبا أيوب الأنصاري سأل عن سمكة طافية ؟ فقال : كل وأطعمني . ومن طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن سليمان بن موسى عن الحسن قال : أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكلون صيد المجوس من الحيتان لا يختلج منه شيء في صدورهم ولم يكونوا يرون صيده ذكاته ، وبأكل الطافي من السمك يقول ابن أبي ليلى والأوزاعي وسفيان الثوري ومالك والليث الشافعي وأبو سليمان . [ ص: 65 ] قال علي : لا يطفو الحوت أصلا إلا حتى يموت أو يقارب الموت فإذا مات طفا ضرورة ولا بد ، فتخصيصهم الطافي بالمنع وإباحتهم ما مات في الماء تناقض .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية