الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار عن علي بن الحسين الدرهمي نا أنس بن عياض هو ابن ضمرة - نا موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما أسكر كثيره فقليله حرام } . ومن طريق قاسم بن أصبغ نا إسحاق بن الحسن الحربي نا زكريا بن عدي نا الوليد بن كثير بن سنان المزني حدثني الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره } . [ ص: 205 ] ومن طريق أبي داود السجستاني ، وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز هو ابن بنت منيع البغوي قال أبو داود : نا قتيبة ، وقال عبد الله : نا أحمد بن حنبل نا سليمان بن داود الهاشمي ، ثم اتفق قتيبة ، وسليمان ، وقالا جميعا : نا إسماعيل هو ابن جعفر - نا داود بن بكر هو ابن أبي الفرات - نا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما أسكر كثيره فقليله حرام } . وروينا أيضا من طريق القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذه الآثار المتظاهرة الثابتة الصحاح المتواترة عن أم المؤمنين ، وأبي هريرة ، وأبي موسى ، وابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وجابر بن عبد الله ، والنعمان بن بشير ، والديلم بن الهوشع كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل التأويل ولا يقدر فيه على حيلة ، بل بالنص على تحريم الشراب نفسه إذا أسكر وتحريم شراب العسل ، وشراب الشعير ، وشراب القمح إذا أسكر ، وشراب الذرة إذا أسكر ، وتحريم القليل من كل ما أسكر كثيره بخلاف ما يقول من خذله الله تعالى وحرمه التوفيق . وقد روينا أيضا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن قليل ما أسكر كثيره وهم يوثقونها إذا وافقت أهواءهم وجلح بعضهم بعدم الحياء في بعض هذه الآثار وهو قوله عليه السلام : { كل مسكر حرام } فقال : إنما عنى الكأس الأخير الذي يسكر منه . قال أبو محمد : وهذا في غاية الفساد من وجوه - : أحدها : أنه دعوى كاذبة بلا دليل وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالباطل ، وتقويل له ما لم يقله عن نفسه ، ولا أخبر به عن مراده ، وهذا يوجب النار لفاعله . وثانيها : أنهم لا يقولون بذلك في شراب العسل ، والحنطة ، والشعير ، والتفاح ، والإجاص والكمثرى ، والقراسيا ، والرمان ، والدخن ، وسائر الأشربة ، إنما يقولونه في مطبوخ التمر ، والزبيب ، والعصير فقط ، فلاح خلافهم للنبي صلى الله عليه وسلم جهارا . والثالث : أنه تأويل أحمق وتخريج سخيف ، قد نزه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يريده ، بل قد نزه الله تعالى كل ذي مسكة عقل عن أن يقوله لأننا نسألهم أي ذلك هو المحرم عندكم ؟ الكأس الآخرة أم الجرعة الآخرة ، أم آخر نقطة تلج حلقه ؟ [ ص: 206 ] فإن قالوا : الكأس الآخرة ؟ قلنا لهم : قد يكون من أوقية ، وقد يكون من أربعة أرطال ، وأكثر ، فما بين ذلك ، وقد لا يكون هنالك كأس ، بل يضع الشريب فاه في الكوز فلا يقلعه عن فمه حتى يسكر فظهر بطلان قولهم في الكأس . فإن قالوا : الجرعة الآخرة ؟ قلنا : والجرع تتفاضل فتكون منها الصغيرة جدا ، وتكون منها ملء الحلق ، فأي ذلك هو الحرام ، وأيه هو الحلال ؟ فظهر فساد قولهم في الجرعة أيضا . فإن قالوا : آخر نقطة ؟ قلنا : النقط تتفاضل فمنها كبير ، ومنها صغير حتى نردهم إلى مقدار الصوابة ، ويحصلوا في نصاب من يسخر بهم ويتطايب بأخبارهم ، فإن لم يحدوا في ذلك حدا كانوا قد نسبوا إلى الله تعالى أنه حرم علينا مقدارا ما فصله عما أحل وذلك المقدار لا يعرفه أحد ، وهذا تكليف ما لا يطاق ، وتحريم ما لا يمكن أن يدرى ما هو وحاشا لله من هذا . فإن قالوا : أنتم تحرمون الإكثار المهلك أو المؤذي من الطعام أو الشراب فحدوه لنا ؟ قلنا : نعم ، وهو ما زاد على الشبع والري المحسوسين بالطبيعة اللذين يميزهما كل أحد من نفسه حتى الطفل الرضيع والبهيمة ، فإن كل ذي عقل إذا بلغ شبعه قطع إلا القاصد إلى أذى نفسه واتباع شهوته فكيف والأحاديث التي ذكرنا لا تحتمل ألبتة هذا التأويل الفاسد ؟ لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل شراب أسكر حرام } إشارة إلى عين الشراب قبل أن يشرب لا إلى آخر شيء منه وأيضا فإن الكأس الأخير المسكرة عندهم ليست هي التي أسكرت الشارب بالضرورة يدرى هذا ، بل هي وكل ما شرب قبلها وقد يشرب الإنسان فلا يسكر ، فإن خرج إلى الريح حدث له السكر ، وكذلك إن حرك رأسه حركة قوية ، فأي أجزاء شرابه هو الحرام حينئذ ؟ - وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          . قال أبو محمد : ونقول لهم إذا قلتم : إن الكأس الأخيرة هي المسكرة فأخبرونا متى صارت حراما مسكرة ؟ أقبل شربه لها ، أم بعد شربه لها ، أم في حال شربه لها ؟ ولا سبيل إلى قسم رابع . فإن قالوا : بعد أن شربها ؟ قلنا : هذا باطل لأنها إذا لم تحرم إلا بعد شربه لها فقد كانت حلالا حين شربه لها وقبل شربه لها ، ومن الباطل المحال الذي لا يقوله مسلم أن [ ص: 207 ] يكون شيء حلالا شربه ، فإذا صار في بطنه صار حراما شربه - هذا كلام أحمق وسخف وهذر لا يعقل . فإن قالوا : بل صارت حراما حين شربه لها ؟ قلنا : إنها لا حظ لها في إسكاره إلا بعد شربه لها ، وأما في حين شربه لها فليست مسكرة إلا بمعنى أنها ستسكره ، وهذا المعنى موجود فيها وهي في دنها فلا فرق بينها في حين شربه لها وبينها قبل ذلك أصلا . فإن قالوا : بل قبل أن يشربها ؟ قلنا : فقولوا بتحريم الإناء الذي كانت فيه ، وبتنجيسه ، وبتحريم كل ما كان فيه من الشرب ، وبتنجيسه لأنه قد خالطه حرام نجس عندكم وهم لا يقولون بهذا . فظهر فساد قولهم من كل وجه وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          . وهو قول السلف كما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان نا يحيى بن سعيد التيمي حدثني أبي عن مريم بنت طارق أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول لنساء عندها : ما أسكر إحداكن فلتجتنبه - وإن كان ماء حبها [ محلها ] فإن كل مسكر حرام . ومن طريق عبد الله بن المبارك عن علي بن المبارك حدثتني كريمة بنت همام أنها سمعت أم المؤمنين عائشة تقول : نهيتم عن الدباء ، نهيتم عن الحنتم ، نهيتم عن المزفت [ ثم أقبلت على النساء فقالت ] إياكن والجر الأخضر وإن أسكركن ماء حبكن فلا تشربنه . ومن طريق سعيد بن منصور نا عبد الحميد بن أبي هلال الجرمي قال : سمعت أم طلحة تقول : سمعت عائشة أم المؤمنين وقد سئلت عن النبيذ ؟ فقالت : إياكم وما يسكركم . ومن طريق عبد الله بن المبارك عن قدامة العامري أن جسرة بنت دجاجة العامرية حدثته أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول : لا أحل مسكرا وإن كان خبزا وماء . نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الرحمن بن مروان القنازعي - ثقة مشهور - نا أحمد بن عمرو بن سليمان البغدادي نا عبد الله بن محمد البغوي نا أحمد بن حنبل ، وجدي أحمد بن منيع ، قالا جميعا : نا عبد الله بن إدريس الأودي قال : سمعت [ ص: 208 ] المختار بن فلفل قال : قال أنس بن مالك : الخمر من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير ، والذرة ، فما تخمرت من ذلك فهو الخمر . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد قال شهدت عمر بن الخطاب صلى جنازة ، ثم أقبل علينا فقال : إني وجدت من عبيد الله ريح شراب وإني سألته عنها ؟ فزعم أنها الطلاء وإني سائل عن الشراب الذي شرب ؟ فإن كان مسكرا جلدته ؟ قال : فشهدته بعد ذلك يجلده . فهذه أصح طريق في الدنيا عن عمر أنه رأى الحد واجبا على من شرب شرابا يسكر كثيره لأن عبيد الله لم يكن سكر مما شرب ، لأنه سأله فراجعه ولم ير عليه سكرا ؟ وإنما حده على شربه ، مما يسكر فقط ، نعم ، ومن الطلاء الذي يحلونه كما تسمع . نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الرحمن بن مروان القنازعي ، نا أحمد بن عمرو بن سليمان البغدادي نا عبد الله بن محمد البغوي هو ابن بنت منيع - نا أحمد بن حنبل نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - نا أبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي - نا الشعبي عن عبد الله بن عمر قال : سمعت عمر يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير - والخمر ما خامر العقل " .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية