الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : صلاة الخوف قسمان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ) [ النساء : 102 ] وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : إذا التحم القتال ، ولم يمكن ترك القتال لأحد ، فمذهب الشافعي رحمه الله أنهم [ ص: 132 ] يصلون ركبانا على دوابهم ، ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئون بالركوع والسجود ، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ، ويحترزون عن الصيحات ؛ لأنه لا ضرورة إليها ، وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر ، واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال ابن عمر : ( فرجالا أو ركبانا ) يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها . قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال ، فصار قوله : ( فرجالا أو ركبانا ) يدل على الترخص في ترك التوجه ، وأيضا يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود ، فصح بما ذكرنا دلالة رجالا أو ركبانا على جواز ترك الاستقبال ، وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فلنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط ، فنقول : لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : فعل القلب وهو النية ، وذلك لا يسقط ؛ لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : فعل اللسان وهي القراءة ، وهي لا تسقط عند الخوف ، ولا يجوز له أيضا أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي ، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أعمال الجوارح ، فنقول : أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه ، وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما ، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع ، لأن هذا القدر ممكن ، وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف ، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب ، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضؤ به ؛ هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه ، والأصح أنه يجوز ، لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم ، فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك ، فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله ، وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ، ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية