الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 136 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( فإن تطهر منه صحت طهارته ; لأن المنع لخوف الضرر ، وذلك لا يمنع صحة الوضوء كما لو توضأ بماء يخاف من حره أو برده ) .

                                      التالي السابق


                                      " الشرح " أما صحة الطهارة فمجمع عليه ، وقوله ; لأن المنع لخوف الضرر ، وذلك لا يمنع صحة الوضوء معناه : أن النهي ليس راجعا إلى نفس المنهي عنه ، بل لأمر خارج وهو الضرر ، وإذا كان النهي لأمر خارج لا يقتضي الفساد على الصحيح المختار لأهل الأصول من أصحابنا وغيرهم ، فإن قيل : لا حاجة إلى قوله : لا يمنع صحة الوضوء ; لأن كراهة التنزيه لا تمنع الصحة قلنا : هذا خطأ ; لأن الكراهة نهي مانع من الصحة ، سواء كان نهي تحريم أو تنزيه إلا أن يكون لأمر خارج ، فلهذا علل المصنف بأنه لأمر خارج ، ومما حكم فيه بالفساد لنهي التنزيه الصلاة في وقت النهي ، فإنها كراهة تنزيه ولا تنعقد على أصح الوجهين كما سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                      وأما قوله : كما لو توضأ بماء يخاف حره أو برده فمعناه : أنه يكره ويصح الوضوء ، وهذان الأمران متفق عليهما عندنا ودليل الكراهة : أنه يتعرض للضرر ; ولأنه لا يمكنه استيفاء الطهارة على وجهها .

                                      ( فرع ) في قول المصنف : " ولا يكره من ذلك إلا ما قصد إلى تشميسه " تصريح بما صرح به أصحابنا وهو : أنه لا تكره الطهارة بماء البحر ولا بماء زمزم ولا بالمتغير بطول المكث ولا بالمسخن ما لم يخف الضرر لشدة حرارته سواء سخن بطاهر أو نجس ، وهذه المسائل كلها متفق عليها عندنا ، وفي كلها خلاف لبعض السلف ، فأما ماء البحر فجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم : على أنه لا يكره كمذهبنا ، وحكى الترمذي في جامعه وابن المنذر في الأشراف وغيرهما عن عبد الله بن عمر بن الخطاب [ ص: 137 ] وعبد الله بن عمرو بن العاص : رضي الله عنهم أنهما كرها الوضوء به ، وحكاه أصحابنا أيضا عن سعيد بن المسيب واحتج لهم بحديث روي عن ابن عمرو عن النبي : صلى الله عليه وسلم { تحت البحر نار وتحت النار بحر حتى عد سبعة وسبعة } رواه أبو داود في سننه ، واحتج أصحابنا بحديث : { هو الطهور ماؤه } وبحديث : { الماء طهور } ; ولأنه لم يتغير عن أصل خلقته فأشبه غيره ، وأما حديث تحت البحر نار فضعيف باتفاق المحدثين ، وممن بين ضعفه أبو عمر بن عبد البر ، ولو ثبت لم يكن فيه دليل ولا معارضة بينه وبين حديث هو الطهور ماؤه . وأما زمزم فمذهب الجمهور كمذهبنا : أنه لا يكره الوضوء والغسل به ، وعن أحمد رواية بكراهته ; لأنه جاء عن العباس رضي الله عنه أنه قال وهو عند زمزم : " لا أحله لمغتسل ، وهو لشارب حل وبل " ودليلنا : النصوص الصحيحة الصريحة المطلقة في المياه بلا فرق ، ولم يزل المسلمون على الوضوء منه بلا إنكار ، ولم يصح ما ذكروه عن العباس ، بل حكي عن أبيه عبد المطلب ولو ثبت عن العباس لم يجز ترك النصوص به .

                                      وأجاب أصحابنا : بأنه محمول على أنه قاله في وقت ضيق الماء لكثرة الشاربين .

                                      وأما المتغير بالمكث فنقل ابن المنذر الاتفاق على أنه لا كراهية فيه إلا ابن سيرين فكرهه ، ودليلنا النصوص المطلقة ; ولأنه لا يمكن الاحتراز منه فأشبه المتغير بما يتعذر صونه عنه .

                                      وأما المسخن فالجمهور : أنه لا كراهة وحكى أصحابنا عن مجاهد كراهته ، وعن أحمد كراهة المسخن بنجاسة ، وليس لهم دليل فيه روح ، ودليلنا النصوص المطلقة ولم يثبت نهي .

                                      ( فرع ) ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما { أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود ، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا [ ص: 138 ] من البئر التي كانت تردها الناقة } وفي رواية للبخاري : { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ، ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها واستقينا ، فأمرهم النبي : صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء } .

                                      قلت : فاستعمال ماء هذه الآبار المذكورة في طهارة وغيرها مكروه أو حرام إلا لضرورة ; لأن هذه سنة صحيحة لا معارض لها ، وقد قال الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، فيمنع استعمال آبار الحجر إلا بئر الناقة ، ولا يحكم بنجاستها ; لأن الحديث لم يتعرض للنجاسة ، والماء طهور بالأصالة ، وهذه المسألة ترد على قول المصنف : لا يكره من ذلك إلا ما قصد إلى تشميسه ، وكذلك يرد عليه : شديد الحرارة والبرودة والله أعلم




                                      الخدمات العلمية