الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام

                                                                                                                                                                                                        6613 حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيت في المنام كأن في يدي سرقة من حرير لا أهوي بها إلى مكان في الجنة إلا طارت بي إليه فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخاك رجل صالح أو قال إن عبد الله رجل صالح

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب عمود الفسطاط ) العمود بفتح أوله معروف والجمع أعمدة وعمد بضمتين ، وبفتحتين ما ترفع به الأخبية من الخشب ويطلق أيضا على ما يرفع به البيوت من حجارة كالرخام والصوان ، ويطلق على ما يعتمد عليه من حديد وغيره ، وعمود الصبح ابتداء ضوئه ، والفسطاط بضم الفاء وقد تكسر وبالطاء المهملة مكررة وقد تبدل الأخيرة سينا مهملة وقد تبدل التاء طاء مثناة فيهما وفي أحدهما وقد تدغم التاء الأولى في السين وبالسين المهملة في آخره لغات تبلغ على هذا اثنتي عشرة ؛ اقتصر النووي منها على ست الأولى والأخيرة وبتاء بدل الطاء الأولى وبضم الفاء وبكسرها ، وقال الجواليقي : إنه فارسي معرب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تحت وسادته ) عند النسفي " عند " بدل " تحت " كذا للجميع ليس فيه حديث ، وبعده عندهم " باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام " إلا أنه سقط لفظ : " باب " عند النسفي والإسماعيلي ، وفيه حديث ابن عمر " رأيت في المنام كأن في يدي سرقة من حرير " .

                                                                                                                                                                                                        وأما ابن بطال فجمع الترجمتين في باب واحد فقال : " باب عمود الفسطاط تحت وسادته ودخول الجنة في المنام فيه حديث ابن عمر إلخ " ، ولعل مستنده ما وقع في رواية الجرجاني " باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام وعمود الفسطاط تحت وسادته " فجعل الترجمتين في باب واحد وقدم وأخر .

                                                                                                                                                                                                        ثم قال ابن بطال قال المهلب : السرقة الكلة وهي كالهودج عند العرب ، وكون عمودها في يد ابن عمر دليل على الإسلام ، وطنبها الدين والعلم والشرع الذي به يرزق التمكن من الجنة حيث شاء ، وقد يعبر هنا بالحرير عن شرف الدين والعلم لأن الحرير أشرف ملابس الدنيا وكذلك العلم بالدين أشرف العلوم ، وأما دخول الجنة في المنام فإنه يدل على دخولها في اليقظة لأن في بعض وجوه الرؤيا وجها يكون في اليقظة كما يراه نصا ، ويعبر دخول الجنة أيضا بالدخول في الإسلام الذي هو سبب لدخول الجنة وطيران السرقة قوة تدل على التمكن من الجنة حيث شاء .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال : وسألت المهلب عن ترجمة عمود الفسطاط تحت وسادته ولم يذكر في الحديث عمود فسطاط ولا وسادة فقال : الذي يقع في نفسي أنه رأى في بعض طرق الحديث السرقة شيئا أكمل مما ذكره في كتابه ، وفيه أن السرقة مضروبة في الأرض على عمود كالخباء وأن ابن عمر اقتلعها من عمودها فوضعها تحت وسادته وقام هو بالسرقة فأمسكها وهي كالهودج من إستبرق فلا يريد موضعا من الجنة إلا طارت به إليه ، ولم يرض بسند هذه الزيادة فلم يدخله في كتابه ، وقد فعل مثل هذا في كتابه كثيرا كما يترجم بالشيء ولا يذكره ويشير إلى أنه روي في بعض طرقه ، وإنما لم يذكره [ ص: 420 ] للين في سنده ، وأعجلته المنية عن تهذيب كتابه انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وقد نقل كلام المهلب جماعة من الشراح ساكتين عليه ، وعليه مآخذ أصلها إدخال حديث ابن عمر في هذا الباب وليس منه بل له باب مستقل ، وأشدها تفسيره السرقة بالكلة فإني لم أره لغيره .

                                                                                                                                                                                                        قال أبو عبيدة : السرقة قطعة من حرير وكأنها فارسية ، وقال الفارابي : شقة من حرير ، وفي النهاية : قطعة من جيد الحرير ، زاد بعضهم : بيضاء ، ويكفي في رد تفسيرها بالكلة أو الهودج قوله في نفس الخبر : " رأيت كأن بيدي قطعة إستبرق " وتخيله أن في حديث ابن عمر الزيادة المذكورة لا أصل له فجميع ما رتبه عليه كذلك .

                                                                                                                                                                                                        وقلده ابن المنير فذكر الترجمة كما ترجم وزاد عليه أن قال : روى غير البخاري هذا الحديث - أي حديث ابن عمر - بزيادة عمود الفسطاط ووضع ابن عمر له تحت وسادته ولكن لم توافق الزيادة شرطه فأدرجها في الترجمة نفسها ، وفساد ما قال يظهر مما تقدم ، والمعتمد أن البخاري أشار بهذه الترجمة إلى حديث جاء من طريق " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه عمود الكتاب انتزع من تحت رأسه " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        وأشهر طرقه ما أخرجه يعقوب بن سفيان والطبراني وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فأتبعته بصري فإذا هو قد عهد به إلى الشام ، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام " ، وفي رواية : " فإذا وقعت الفتن فالأمن بالشام " ، وله طريق عند عبد الرزاق رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه انقطاعا بين أبي قلابة وعبد الله بن عمرو ولفظه عنده : " أخذوا عمود الكتاب فعمدوا به إلى الشام " .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج أحمد ويعقوب بن سفيان والطبراني أيضا عن أبي الدرداء رفعه : " بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام " الحديث وسنده صحيح .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج يعقوب والطبراني أيضا عن أبي أمامة نحوه وقال : " انتزع من تحت وسادتي " ، وزاد بعد قوله بصري " فإذا هو نور ساطع حتى ظننت أنه قد هوي به فعمد به إلى الشام ، وإني أولت أن الفتن إذا وقعت أن الأمان بالشام " وسنده ضعيف .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج الطبراني أيضا بسند حسن عن عبد الله بن حوالة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " رأيت ليلة أسري بي عمودا أبيض كأنه لواء تحمله الملائكة فقلت ما تحملون قالوا عمود الكتاب أمرنا أن نضعه بالشام ، قال وبينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب اختلس من تحت وسادتي فظننت أن الله تخلى عن أهل الأرض فأتبعته بصري فإذا هو نور ساطع حتى وضع بالشام " .

                                                                                                                                                                                                        وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد والطبراني بسند ضعيف وعن عمر عند يعقوب والطبراني كذلك ، وعن ابن عمر في " فوائد المخلص " كذلك ، وهذه طرق يقوي بعضها بعضا ، وقد جمعها ابن عساكر في مقدمة تاريخ دمشق ، وأقربها إلى شرط البخاري حديث أبي الدرداء فإنه أخرج لرواته إلا أن فيه اختلافا على يحيى بن حمزة في شيخه هل هو ثور بن يزيد أو زيد بن واقد ، وهو غير قادح لأن كلا منهما ثقة من شرطه ، فلعله كتب الترجمة وبيض للحديث لينظر فيه فلم يتهيأ له أن يكتبه ، وإنما ترجم بعمود الفسطاط ولفظ الخبر : " في عمود الكتاب " إشارة إلى أن من رأى عمود الفسطاط في منامه فإنه يعبر بنحو ما وقع في الخبر المذكور ، وهو قول العلماء بالتعبير قالوا : من رأى في منامه عمودا فإنه يعبر بالدين أو برجل يعتمد عليه فيه ، وفسروا العمود بالدين والسلطان ، وأما الفسطاط فقالوا من رأى أنه ضرب عليه فسطاط فإنه ينال سلطانا بقدره أو يخاصم ملكا فيظفر به .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 421 ] قوله : ( باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام ) تقدم في الذي قبله ما يتعلق بشيء منه ، وحديث ابن عمر في الباب ذكره هنا من طريق وهيب بن خالد عن أيوب عن نافع بلفظ : " سرقة " ، وذكره بلفظ : " قطعة من إستبرق " كما في ترجمة الترمذي من طريق إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن علية عن أيوب فذكره مختصرا كرواية وهيب إلا أنه قال : " كأنما في يدي قطعة إستبرق " فكأن البخاري أشار إلى روايته في الترجمة ، وقد أخرجه أيضا في " باب من تعار من الليل " من كتاب التهجد ، وهو في أواخر كتاب الصلاة من طريق حماد بن زيد عن أيوب أتم سياقا من رواية وهيب وإسماعيل .

                                                                                                                                                                                                        وأخرجه النسائي من طريق الحارث بن عمير عن أيوب فجمع بين اللفظتين فقال : " سرقة من إستبرق " ، وقوله هنا " لا أهوي بها " هو بضم أوله ، أهوى إلى الشيء بالفتح يهوي بالضم أي مال ، ووقع في رواية حماد " فكأني لا أريد مكانا من الجنة إلا طارت بي إليه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله في رواية وهيب ( فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم ) الحديث ، وقع مثله في رواية حماد عند مسلم ، ووقع عند المؤلف في روايته بعد قوله : " طارت بي إليه " من الزيادة " ورأيت كأن اثنين أتياني أرادا أن يذهبا بي إلى النار " الحديث بهذه القصة مختصرا وقال فيه : " فقصت حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى رؤياي " ، وظاهر رواية وهيب ومن تابعه أن الرؤيا التي أبهمت في رواية حماد هي رؤية السرقة من الحرير ، وقد وقع ذلك صريحا في رواية حماد عند مسلم ، لكن يعارضه ما مضى في " باب فضل قيام الليل " ، ويأتي في " باب الأخذ عن اليمين " من كتاب التعبير من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه فذكر الحديث في رؤيته النار وفيه : " فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة " ، فهو صريح في أن حفصة قصت رؤياه النار .

                                                                                                                                                                                                        كما أن رواية حماد صريحة في أن حفصة قصت رؤياه السرقة ، ولم يتعرض في رواية سالم إلى رؤيا السرقة فيحتمل أن يكون قوله : " إحدى رؤياي " محمولا على أنها قصت رؤيا السرقة أولا ثم قصت رؤيا النار بعد ذلك ، وأن التقدير قصت إحدى رؤياي أولا فلا يكون لقوله : " إحدى " مفهوم ، وهذا الموضع لم أر من تعرض له من الشراح ولا أزال إشكاله ، فلله الحمد على ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال إن أخاك رجل صالح أو إن عبد الله رجل صالح ) هو شك من الراوي ، ووقع في رواية حماد المذكورة " إن عبد الله رجل صالح " بالجزم ، وكذا في رواية صخر بن جويرية عن نافع ، زاد الكشميهني في روايته عن الفربري في الموضعين " لو كان يصلي من الليل " ، وسقطت هذه الزيادة لغيره وهي ثابتة في رواية سالم كما تقدم في قيام الليل وتأتي ، ويؤيد ثبوتها قوله في رواية حماد عند الجميع : " فقال نافع فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة " ، وقد تقدم في قيام الليل وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عند مسلم " وقال نعم الفتى - أو قال نعم الرجل - ابن عمر لو كان يصلي من الليل قال ابن عمر وكنت إذا نمت لم أقم حتى أصبح ، [ ص: 422 ] قال نافع فكان ابن عمر بعد يصلي من الليل ، أخرج مسلم إسناده وأصله وأحال بالمتن على رواية سالم ، وهو غير جيد لتغايرهما ، وأخرجه بلفظه أبو عوانة والجوزقي بهذا ، ويأتي في " باب الأمن وذهاب الروع " أيضا من طريق صخر بن جويرية عن نافع ، وكذا بعده في باب " الأخذ عن اليمين " في رواية سالم .

                                                                                                                                                                                                        قال الزهري : وكان عبد الله بعد ذلك يكثر الصلاة من الليل ، ولعل الزهري سمع ذلك من نافع أو من سالم ، ومضى شرحه هناك . ووقع في مسند أبي بكر بن هارون الروياني من طريق عبد الله بن نافع عن أبيه في نحو هذه القصة من الزيادة " وكان عبد الله كثير الرقاد " ، وفيه أيضا " إن الملك الذي قال له لم ترع قال له لا تدع الصلاة ، نعم الرجل أنت لولا قلة الصلاة " .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية