الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                قال البخاري - رحمه الله -

                                849 - حدثنا أبو الوليد، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا الزهري، عن هند بنت الحارث، عن أم سلمة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سلم مكث في مكانه يسيرا.

                                قال ابن شهاب: فنرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء.

                                812 850 - وقال ابن أبي مريم: أنا نافع بن يزيد، حدثني جعفر بن ربيعة، أن ابن شهاب كتب إليه، قال: حدثتني هند بنت الحارث الفراسية، عن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت من صواحباتها - قالت: كان يسلم، فينصرف النساء فيدخلن في بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

                                التالي السابق


                                ثم ذكر روايات أخر عن الزهري ، حاصلها يرجع إلى قولين في نسبة هند بنت الحارث :

                                منهم من قال: " الفراسية ".

                                [ ص: 267 ] ومنهم من قال: " القرشية ".

                                وقيل: إنها فراسية بالنسب، قرشية بالحلف، كانت تحت معبد بن المقداد بن الأسود .

                                وفي الحديث: دليل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمكث في المسجد بعد تسليمه من الصلاة يسيرا، وإنما كان يمكث بعد إقباله على الناس بوجهه، لا يمكث مستقبلا للقبلة، وبهذا يجمع بين هذا الحديث والأحاديث المذكورة في الباب الماضي.

                                ويدل على أنه كان يجلس قبل انصرافه يسيرا: ما خرجه مسلم من حديث البراء بن عازب ، قال: رمقت الصلاة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء.

                                فهذا الحديث: صريح في أنه كان يجلس بعد تسليمه قريبا من قدر ركوعه أو سجوده أو جلوسه بين السجدتين، ثم ينصرف بعد ذلك.

                                وخرج مسلم - أيضا - من حديث عائشة ، قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: " اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام ".

                                وقد سأل أبو داود الإمام أحمد ، عن تفسير حديث عائشة ، وهل المعنى: أنه يجلس في مقعده حتى ينحرف؟ قال: لا أدري.

                                فتوقف: هل المراد جلوسه مستقبل القبلة يسيرا؟

                                [ ص: 268 ] قال: وقال أبو يحيى الناقد : صليت خلف أبي عبد الله - يعني: أحمد - فكان إذا سلم من الصلاة لبث هنية، ثم ينحرف. قال: فظننته يقول ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

                                فحكى القاضي في كراهة جلوس الإمام مستقبل القبلة بعد سلامه يسيرا روايتين عن أحمد .

                                والمنصوص عن أحمد في تكبير أيام التشريق: أن الإمام يكبر مستقبل القبلة قبل أن ينحرف، وحكاه عن النخعي .

                                قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر : والعمل على ذلك.

                                وهذا يدل على أنه يستحب الذكر اليسير للإمام قبل انحرافه.

                                ومن المتأخرين من أصحابنا من قال: إنما يكبر الإمام بعد استقباله للناس، واستدلوا فيه بحديث مرفوع، لا يصح إسناده.

                                والمنقول عن السلف يدل على أن الإمام ينحرف عقب سلامه، ثم يجلس إن شاء.

                                روى عبد الرزاق في " كتابه "، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، قال: إذا سلم الإمام فليقم ولينحرف عن مجلسه. قلت: يجزئه ينحرف عن مجلسه ويستقبل القبلة؟ قال: الانحراف يغرب أو يشرق، عن غير واحد.

                                وكان المسئول معمرا . والله أعلم.

                                وروى - أيضا - بإسناده، عن مجاهد ، قال: ليس من السنة أن يقعد [ ص: 269 ] حتى يقوم، ثم يقعد بعد إن شاء.

                                وعن سعيد بن جبير ، أنه كان يفعله.

                                وعن عطاء ، قال: قد كان يجلس الإمام بعدما يسلم - وأقول أنا: التسليم: الانصراف - قدر ما ينتعل نعليه.

                                وعن عبيدة ، أنه قال لما سمع مصعبا يكبر ويهلل بعد صلاته مستقبل القبلة: ما له، قاتله الله، نعار بالبدع.

                                ويستثنى من ذلك: الجلوس بعد الفجر ، فإنه لو جلس الإمام بعد استقباله الناس إلى أن تطلع الشمس كان حسنا.

                                ففي " صحيح مسلم "، عن جابر بن سمرة ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام.

                                وروى وكيع بإسناده، عن النخعي ، أنه كان إذا سلم قام، إلا الفجر والعصر. فقيل له في ذلك؟ فقال: ليس بعدهما صلاة.

                                قال أحمد - في الإمام إذا صلى يقوم الفجر أو العصر -: أعجب إلي أن ينحرف، ولا يقوم من موضعه.

                                وكان أحمد إذا صلى بالناس الصبح جلس حتى تطلع الشمس.

                                فأما جلوسه بعد الظهر، فقال أحمد : لا يعجبني.

                                قال القاضي أبو يعلى : ظاهر كلامه: أنه يستحب بعد الصلاة التي لا يتطوع بعدها، ولا يستحب بعد غيرها.

                                [ ص: 270 ] قال: وروى الخلال بإسناده، عن عابد الطائي ، قال: كانوا يكرهون جلوس الإمام في مصلاه بعد صلاة يصلى بعدها، فإذا كانت صلاة لا يصلى بعدها فإن شاء قام، وإن شاء جلس.

                                وحكي عن أصحاب الشافعي : أن المستحب للإمام أن يقوم ولا يجلس في كل الصلوات.

                                وقد نص الشافعي في " المختصر " على أنه يستحب للإمام أن يقوم عقب سلامه إذا لم يكن خلفه نساء.

                                فأما المأموم فلا يكره له الجلوس بعد الصلاة في مكانه، يذكر الله، خصوصا بعد الصبح والعصر، ولا نعلم في ذلك خلافا.

                                وقد صح الحديث في أن الملائكة تصلي على العبد ما دام في مصلاه، ما لم يحدث ، وقد سبق ذكره، ووردت أحاديث في الجلوس بعد الصبح والعصر، وكان السلف الصالح يحافظون عليه.

                                ومتى أطال الإمام الجلوس في مصلاه، فإن للمأموم أن ينصرف ويتركه، وسواء كان جلوسه مكروها أو غير مكروه.

                                قال ابن مسعود : إذا فرغ الإمام ولم يقم ولم ينحرف، وكانت لك حاجة فاذهب ودعه، فقد تمت صلاتك.

                                خرجه عبد الرزاق .

                                وذكر بإسناده، عن عطاء ، قال: كلامه بمنزلة قيامه، فإن تكلم فليقم المأموم إن شاء.

                                [ ص: 271 ] وإن لم يطل الإمام الجلوس، فالسنة أن لا يقوم المأموم حتى يقوم الإمام ، كذا قال الزهري والحسن وقتادة وغيرهم.

                                وقال الزهري : إنما جعل الإمام ليؤتم به.

                                يشير إلى أن مشروعية الاقتداء به لا تنقطع إلا بانصرافه.

                                وفي " صحيح مسلم "، عن أنس ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " -أيها الناس-، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف ".

                                وحديث أم سلمة المخرج في هذا الباب يدل عليه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس يسيرا حتى ينصرف النساء، فلا يختلط بهن الرجال، وهذا يدل على أن الرجال كانوا يجلسون معه، فلا ينصرفون إلا مع انصرافه.

                                وقد روي ذلك صريحا في هذا الحديث:

                                خرجه البخاري فيما بعد من رواية يونس ، عن ابن شهاب ، ولفظه: إن النساء كن إذا سلمن من الصلاة قمن وثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام الرجال.

                                وفي هذا الحديث: دليل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يدعو بعد فراغ صلاته دعاء عاما للمأمومين، فإنه لو كان كذلك لاشترك في حضوره الرجال والنساء، كما أمر بشهود النساء العيدين حتى الحيض، وقال: " يشهدن الخير ودعوة المسلمين "، فلو كان عقب الصلاة دعاء عام لشهده النساء مع الرجال - أيضا.

                                وقال الشافعي في " الأم ": فإن قام الإمام قبل ذلك، أو جلس أطول من [ ص: 272 ] ذلك، فلا شيء عليه. قال: وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وتأخيره حتى ينصرف بعد انصراف الإمام أو معه أحب إلي.

                                وظاهر كلام كثير من السلف: كراهة ذلك، كما تقدم.

                                وفي " تهذيب المدونة " للمالكية، ولا يقيم الإمام في مصلاه إذا سلم، إلا أن يكون في سفر أو فنائه، وإن شاء تنحى وأقام.



                                الخدمات العلمية