الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكرهت تحريما ) وقيل ( تنزيها [ ص: 225 ] في مسجد جماعة هو ) أي الميت ( فيه ) وحده أو مع القوم .

( واختلف في الخارجة ) عن المسجد وحده أو مع بعض القوم ( والمختار الكراهة ) مطلقا خلاصة ، بناء على أن المسجد إنما بني للمكتوبة ، وتوابعها كنافلة وذكر وتدريس علم ، وهو الموافق لإطلاق [ ص: 226 ] حديث أبي داود { من صلى على ميت في المسجد فلا صلاة له } .

التالي السابق


مطلب في كراهة صلاة الجنازة في المسجد

( قوله : وقيل تنزيها ) رجحه المحقق ابن الهمام وأطال ; ووافقه تلميذه العلامة ابن أمير حاج ، وخالفه تلميذه الثاني الحافظ الزيني قاسم في فتواه برسالة خاصة ، فرجح القول الأول لإطلاق المنع في قول محمد في موطئه : لا يصلى على جنازة في مسجد . وقال الإمام الطحاوي : النهي عنها وكراهيتها قول أبي حنيفة ومحمد ، وهو قول [ ص: 225 ] أبي يوسف أيضا وأطال ، وحقق أن الجواز كان ثم نسخ وتبعه في البحر ، وانتصر له أيضا سيدي عبد الغني في رسالة سماها نزهة الواجد في حكم الصلاة على الجنائز في المساجد ( قوله : في مسجد جماعة ) أي المسجد الجامع ، ومسجد المحلة قهستاني . وتكره أيضا في الشارع وأرض الناس كما في الفتاوى الهندية عن المضمرات ، وكما تكره الصلاة عليها في المسجد يكره إدخالها فيه كما نقله الشيخ قاسم ( قوله : أو مع القوم ) أي كلا أو بعضا بناء على أن أل في القوم جنسية . ا هـ . ح ( قوله مطلقا ) أي في جميع الصور المتقدمة كما في الفتح عن الخلاصة . وفي مختارات النوازل سواء كان الميت فيه أو خارجه هو ظاهر الرواية . وفي رواية لا يكره إذا كان الميت خارج المسجد ( قوله بناء على أن المسجد إلخ ) أما إذا عللنا بخوف تلويث المسجد فلا يكره إذا كان الميت خارج المسجد وحده أو مع بعض القوم ا هـ ح . قال في شرح المنية : وإليه مال في المبسوط والمحيط ، وعليه العمل ، وهو المختار . ا هـ .

قلت : بل ذكر في غاية البيان والعناية أنه لا كراهة فيها بالاتفاق ، لكن رده في البحر . وأجاب في النهر بحمل الاتفاق على عدم الكراهة في حق من كان خارج المسجد وما مر في حق من كان داخله .

ثم اعلم أن التعليل الأول فيه خفاء ، إذ لا شك أن الصلاة على الميت دعاء وذكر وهما مما بني له المسجد وإلا لزم المنع عن الدعاء فيه لنحو الاستسقاء والكسوف مع أن الوارد في ذلك ما رواه مسلم { أن رجلا نشد في المسجد ضالة فقال صلى الله عليه وسلم : لا وجدت ، إنما بنيت المساجد لما بنيت له } فليتأمل ( قوله وهو الموافق إلخ ) كذا في الفتح ، لكن فيه نظر لأن قوله في المسجد يحتمل أن يكون ظرفا لصلى أو لميت أو لهما ، فعلى الأول لا يكره كون الميت فيه والصلاة خارجه ، وعلى الثاني لا يكره العكس ، وعلى الثالث لا يكره إذا فقد أحدهما ، وعلى كل فهو مخالف للمختار من إطلاق الكراهة . وأجاب في البحر بأنه لما لم يقم دليل على واحد من الاحتمالات بعينه قالوا بالكراهة بوجود أحدها أيا كان . ا هـ .

أقول : يلزم عليه إثبات الكراهة بلا دليل لأنه إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال ، ولكن لا يخفى أن المتبادر لغة وعرفا من نحو قولك ضربت زيدا في الدار تعلق الظرف بالفعل ، وأما أنه هل يقتضي كون كل من الفاعل والمفعول به أو أحدهما بعينه في المكان فغير لازم . مطلب مهم

إذا قال : إن شتمت فلانا في المسجد يتوقف على كون الشاتم فيه ، وفي إن قتلته بالعكس نعم ذكر ضابطا لذلك في تلخيص الجامع الكبير وشرحه في باب الحنث في الشتم ، وهو أن الفعل قد لا يكون له أثر في المفعول كالعلم والذكر ، وقد يكون كالضرب والقتل ، فإذا قال : إن شتمت زيدا في المسجد مثلا فإنما يتحقق بكون الشاتم في ذلك المكان سواء كان المشتوم فيه أيضا أو لا لأن الشتم هو ذكر المشتوم بسوء والذاكر [ ص: 226 ] يقوم بالذاكر ولا أثر له في المذكور لأنه يتحقق شتما في حق الميت والغائب فيعتبر مكان الفاعل . وأما القتل والضرب ونحوهما في مكان فيتحقق بكون المفعول به فيه سواء كان الفاعل فيه أيضا أم لا لأن هذه الأفعال لها آثار تقوم بالمحل ، فيشترط وجود المفعول به وهو المحل في ذلك المكان دون الفاعل لأن من ذبح شاة هي في المسجد وهو خارجه يسمى ذابحا في المسجد بخلاف عكسه ; ألا ترى أن الرامي إلى صيد في الحرم يكون قاتلا للصيد في الحرم وإن كان حال الرمي في الحل ا هـ ملخصا ، وتمام تحقيقه هناك فراجعه . إذا علمت ذلك فلا يخفى أن الصلاة على الميت فعل لا أثر له في المفعول ، وإنما يقوم بالمصلي ، فقوله من صلى على ميت في مسجد يقتضي كون المصلي في المسجد سواء كان الميت فيه أو لا ، فيكره ذلك أخذا من منطوق الحديث ، ويؤيده ما ذكره العلامة قاسم في رسالته من أنه روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى النجاشي إلى أصحابه خرج فصلى عليه في المصلى } قال : ولو جازت في المسجد لم يكن للخروج معنى ا هـ مع أن الميت كان خارج المسجد .

وبقي ما إذا كان المصلي خارجه والميت فيه ، وليس في الحديث دلالة على عدم كراهته لأن المفهوم عندنا غير معتبر في غير ذلك ، بل قد يستدل على الكراهة بدلالة النص ، لأنه إذا كرهت الصلاة عليه في المسجد وإن لم يكن هو فيه مع أن الصلاة ذكر ودعاء يكره إدخاله فيه بالأولى لأنه عبث محض ولا سيما على كون علة كراهة الصلاة خشيت تلويث المسجد .

وبهذا التقرير ظهر أن الحديث مؤيد للقول المختار من إطلاق الكراهة الذي هو ظاهر الرواية كما قدمناه ، فاغتنم هذا التحرير الفريد فإنه مما فتح به المولى على أضعف خلقه ، والحمد لله على ذلك ( قوله { فلا صلاة له } ) هذه رواية ابن أبي شيبة ورواية أحمد وأبي داود " { فلا شيء له } " وابن ماجه " { فليس له شيء } " وروى " { فلا أجر له } " وقال ابن عبد البر : هي خطأ فاحش ، والصحيح " { فلا شيء له } " وتمامه في حاشية نوح أفندي والمدني ، وليس الحديث نهيا غير مصروف ولا مقرونا بوعيد لأن سلب الأجر لا يستلزم ثبوت استحقاق العقاب لجواز الإباحة .

وقد يقال : إن الصلاة نفسها سبب موضوع للثواب فسلبه مع فعلها لا يكون إلا باعتبار ما يقترن بها من إثم يقاوم ذلك وفيه نظر ، كذا في الفتح ، وكذا يقال في رواية " فلا صلاة له " لأنه علم قطعا أنها صحيحة فهي مثل { لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد } بل تأويل هذه الرواية أقرب : أي لا صلاة كاملة ، فلا تنافي ثبوت أصل الثواب . وبه اندفع ما في البحر من أن هذه الرواية تؤيد القول بكراهة التحريم . [ تتمة ]

إنما تكره في المسجد بلا عذر ، فإن كان فلا ، ومن الأعذار المطر كما في الخانية والاعتكاف كما في المبسوط ، كذا في الحلية وغيرها . والظاهر أن المراد اعتكاف الولي ونحوه ممن له حق التقدم ، ولغيره الصلاة معه تبعا له وإلا لزم أن لا يصليها غيره وهو بعيد لأن إثم الإدخال والصلاة ارتفع بالعذر تأمل ، وانظر هل يقال : إن من العذر ما جرت به العادة في بلادنا من الصلاة عليها في المسجد لتعذر غيره أو تعسره بسبب اندراس المواضع التي كان يصلي عليها فيها ، فمن حضرها في المسجد إن لم يصل عليها مع الناس لا يمكنه الصلاة عليها في غيره ، ولزم أن لا يصلي في عمره على جنازة ، نعم قد توضع في بعض المواضع خارج المسجد في الشارع فيصلى عليها ، ويلزم منه فسادها من كثير من المصلين لعموم النجاسة وعدم خلعهم نعالهم المتنجسة مع أنا قدمنا كراهتها في الشارع . [ ص: 227 ] وإذا ضاق الأمر اتسع ، فينبغي الإفتاء بالقول بكراهة التنزيه الذي هو خلاف الأولى كما اختاره المحقق ابن الهمام ، وإذا كان ما ذكرناه عذرا فلا كراهة أصلا ، والله - تعالى - أعلم




الخدمات العلمية