الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثالث:

                                839 879 - ثنا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ".

                                التالي السابق


                                وهذا الحديث إنما يدل على تخصيص المحتلمين بوجوب الغسل، كما سبق ذكره في " باب: وضوء الصبيان وطهارتهم ".

                                وقد تقدم ما يدل على أن المأمورين بالغسل هم الآتون للجمعة، فيستدل بذلك على اختصاص الإتيان للجمعة بمن بلغ الحلم، دون من لم يبلغ.

                                وقد خرج النسائي من رواية عياش بن عباس ، عن بكير بن الأشج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " رواح الجمعة واجب على كل محتلم ".

                                وهذا صريح بأن الرواح إنما يجب على المحتلم، فيفهم منه أنه لا يجب على من لم يحتلم.

                                وخرجه أبو داود وابن حبان في " صحيحه "، ولفظ أبي داود : " على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل ".

                                وقد أعل، بأن مخرمة بن بكير رواه عن أبيه، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير ذكر حفصة .

                                وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما؛ فإن ابن عمر صرح بأنه سمع حديث الغسل من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن هل حديث مخرمة موافق لحديث [ ص: 341 ] عياش في لفظه، أم لا؟

                                وقد سبق القول في وجوب الجمعة على من لم يحتلم من الصبيان في " باب: وضوء الصبيان ".

                                وحديث عمر وابن عمر فيهما التصريح بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغسل للجمعة، وحديث أبي سعيد فيه التصريح بوجوبه.

                                وقد اختلف العلماء في غسل الجمعة : هل هو واجب - بمعنى: أنه يأثم بتركه مع القدرة عليه بغير ضرر - أم هو مستحب - فلا يأثم بتركه بحال -؟ ولم يختلفوا أنه ليس بشرط لصحة صلاة الجمعة، وأنها تصح بدونه، ولهذا أقر عمر والصحابة من شهد الجمعة ولم يغتسل، ولم يأمروه بالخروج للغسل.

                                وقد استدل - أيضا - بذلك الشافعي وغيره على أنه غير واجب؛ لأنه لو كان واجبا لأمروه بالخروج له.

                                وأجاب بعضهم عن ذلك: بأنهم قد يكونوا خافوا عليه فوات الصلاة لضيق الوقت.

                                وأكثر العلماء على أنه يستحب، وليس بواجب.

                                وذكر الترمذي في " كتابه " أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.

                                وهذا الكلام يقتضي حكاية الإجماع على ذلك.

                                وقد حكي عن عمر وعثمان ، ومستند من حكاه عنهما: قصة عمر مع الداخل إلى المسجد؛ فإنه قد وقع في رواية أنه كان عثمان ، وسنذكرها - إن شاء الله تعالى.

                                وممن قال: هو سنة: ابن مسعود .

                                وروي عن ابن عباس ، أنه غير واجب، وعن عائشة وغيرهم من الصحابة، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار: الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، [ ص: 342 ] وأحمد - في ظاهر مذهبه - وإسحاق .

                                ورواه ابن وهب ، عن مالك ، وأنه قيل له: في الحديث: " هو واجب "؟ قال: ليس كل ما في الحديث: " هو واجب " يكون كذلك.

                                وهو اختيار عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من أصحابه.

                                واستدل من قال: ليس بواجب: بما روي عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل " .

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، وحسنه.

                                وقد اختلف في سماع الحسن من سمرة .

                                وخرجه ابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي ، عن أنس - مرفوعا - أيضا.

                                ويزيد ، ضعيف الحديث.

                                وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام ".

                                وهذا يدل على أن الوضوء كاف، وأن المقتصر عليه غير آثم ولا عاص، وأما الأمر بالغسل فمحمول على الاستحباب.

                                وقد روي من حديث عائشة وابن عباس ما يدل على ذلك، وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.

                                وأما رواية الوجوب، فالوجوب نوعان: وجوب حتم، ووجوب سنة وفضل.

                                وذهبت طائفة إلى وجوب الغسل، وروي عن أبي هريرة ، والحسن ، وروي - أيضا - عن سعد ، وعمار ، وابن عباس - في رواية أخرى عنه - وعن عبد الرحمن [ ص: 343 ] بن يزيد بن الأسود ، وعطاء بن السائب ، وعمرو بن سليم وغيرهم من المتقدمين.

                                وحكي رواية عن أحمد ، قال أحمد - في رواية حرب وغيره -: أخاف أن يكون واجبا، إلا أن يكون برد شديد.

                                وهذا لا يدل على الوجوب جزما.

                                وهو رواية عن مالك ، ولم يذكر في " تهذيب المدونة " سواها.

                                وذكر ابن عبد البر : أنه لا يعلم أحدا قال: إنه يأثم بتركه، غير أهل الظاهر، وأن من أوجبه، قال: لا يأثم بتركه.

                                وحكى - أيضا - الإجماع على أنه ليس بفرض واجب.

                                وذكر عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال: قلت لعطاء : غسل الجمعة واجب؟ قال: نعم، من تركه فليس بآثم.

                                قال عبد الرزاق : وهو أحب القولين إلى سفيان ، يقول: هو واجب.

                                يعني: وجوب سنة.

                                وذكر ابن عبد البر قولين للعلماء، وذكر أنه أشهر الروايتين، عن مالك .

                                والثاني: أنه مستحب وليس بسنة، بل هو كالطيب والسواك، وحكاه رواية عن مالك .

                                وحكى عن بعضهم: أن الطيب يغني عنه، حكاه عن عطاء الخراساني ، وعن عبد الكريم بن الحارث المصري ، وعن موسى بن صهيب ، قال: كانوا يقولون ذلك.

                                وعن النخعي ، قال: ما كانوا يرون غسلا واجبا إلا غسل الجنابة، وكانوا يستحبون غسل الجمعة.

                                [ ص: 344 ] فابن عبد البر لم يثبت في وجوب غسل الجمعة - بمعنى كونه فرضا يأثم بتركه - اختلافا بين العلماء المعتبرين، وإنما خص الخلاف في ذلك بأهل الظاهر.

                                والأكثرون: أطلقوا حكاية الخلاف في وجوب غسل الجمعة، وحكوا القول بوجوبه عن طائفة من السلف، كما حكاه ابن المنذر ، عن أبي هريرة وعمار ، وعن مالك - أيضا.

                                والذي ذكره ابن عبد البر هو التحقيق في ذلك -والله أعلم- وأن من أطلق وجوبه إنما تبع في ذلك ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من إطلاق اسم " الواجب " عليه، وقد صرح طائفة منهم بأن وجوبه لا يقتضي الإثم بتركه، كما حمل أكثر العلماء كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- على مثل ذلك - أيضا.

                                وممن صرح بهذا: عطاء ، كما سبق ذكره عنه، ومنهم: يحيى بن يحيى النيسابوري ، والجوزجاني .

                                وقد تبين بهذا أن لفظ " الواجب " ليس نصا في الإلزام بالشيء والعقاب على تركه، بل قد يراد به ذلك - وهو الأكثر - وقد يراد به تأكد الاستحباب والطلب.

                                ولهذا قال إسحاق : إن كل ما في الصلاة فهو واجب، وإن كانت الصلاة تعاد من ترك بعضه، كما سبق ذكره عنه.

                                وسبق - أيضا - عن الشافعي وأحمد في لفظ: " الفرض " ما يدل على نحو ذلك، فالواجب أولى؛ لأنه دون الفرض.

                                ونص الشافعي - في رواية البويطي - على أن صلاة الكسوف ليست بنفل، ولكنها واجبة وجوب السنة.

                                وهذا تصريح منه بأن السنة المتأكدة تسمى " واجبا ". والله أعلم.



                                الخدمات العلمية