الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( مباركا وهدى للعالمين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل . فأولها : أنه أول بيت وضع للناس ، وقد ذكرنا معنى كونه أولا في الفضل ونزيد هاهنا وجوها أخر . الأول : قال علي رضي الله عنه ، هو أول بيت خص بالبركة ، وبأن من دخله كان آمنا ، وقال الحسن : هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض ، وقال مطرف : أول بيت جعل قبلة . وثانيها : أنه تعالى وصفه بكونه مباركا ، وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : انتصب ( مباركا ) على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : البركة لها معنيان . أحدهما : النمو والتزايد . والثاني : البقاء والدوام ، يقال تبارك الله ، لثبوته لم يزل ، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر ، فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه . أحدها : أن الطاعات إذا أتي بها في هذا البيت ازداد ثوابها . قال صلى الله عليه وسلم : " فضل المسجد الحرام على مسجدي ، كفضل مسجدي على سائر المساجد " ثم قال صلى الله عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه " فهذا في الصلاة ، وأما الحج ، فقال عليه الصلاة والسلام : " من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وفي حديث آخر " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة . وثانيها : قال القفال رحمه الله تعالى : ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى : ( يجبى إليه ثمرات كل شيء ) فيكون كقوله : ( إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) [ الإسراء : 1 ] . وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسية ، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره ، وهذا بحر عظيم ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضا كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود ، وأيضا الأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم ، وظهر لثان وعصر لثالث ، ومغرب لرابع وعشاء لخامس ، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلا من هذه الجهة ، وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام أيضا فثبت كونه مباركا من الوجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثالثة : من صفات هذا البيت كونه ( وهدى للعالمين ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قيل : المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم ، وقيل : هدى للعالمين [ ص: 131 ] أي دلالة على وجود الصانع المختار وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها ، فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولا على وجود الصانع ، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء ، وقيل : هدى للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الزجاج : المعنى وذا هدى للعالمين ، قال : ويجوز أن يكون ( وهدى ) في موضع رفع على معنى وهو هدى .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فيه آيات بينات ) ففيه قولان . الأول : أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي : أمن الخائف ، وانمحاق الجمار على كثرة الرمي ، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة ، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه ، فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية