الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صالي الجحيم وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) [ ص: 378 ]

الظاهر أن الجنة هم الشياطين ، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة . منها أنه تعالى صاهر سروات الجن ، فولد منهم الملائكة ، وهم فرقة من بني مدلج ، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق . ( ولقد علمت الجنة ) أي الشياطين ، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : إذا فسرت الجنة بالشياطين ، فيجوز أن يكون الضمير في ( إنهم لمحضرون ) لهم . والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم ، ولو كانوا مناسبين له ، أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذبهم . وقيل : الضمير في ( وجعلوا ) لفرقة من كفار قريش والعرب ، والجنة : الملائكة ، سموا بذلك لاجتنانهم وخفائهم . وقال الزمخشري : وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم وتصغيرا لهم ، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم ، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار ، وهو من صفات الأجرام ، لا يصح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك . انتهى .

( ولقد علمت الجنة ) أي الملائكة ، ( أنهم ) أي الكفرة المدعين نسبة بين الملائكة وبين الله تعالى ، محضرون النار ، يعذبون بما يقولون . وأضيف ذلك إلى علم من نسبوا لذلك ، مبالغة في تكذيب الناسبين . ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به ، ( إلا عباد الله ) ، فإنهم يصفونه بصفاته . وأما من المحضرون ، أي إلا عباد الله ، فإنهم ناجون مدة العذاب ، وتكون جملة التنزيه اعتراضا على كلا القولين ، فالاستثناء منقطع . والظاهر أن الواو في ( وما تعبدون ) للعطف ، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم ، وأن الضمير في عليه عائد على ( ما ) ، والمعنى : قل لهم يا محمد : وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم ، وغلب الخطاب . كما تقول : أنت وزيد تخرجان عليه ، أي على عبادة معبودكم . ( بفاتنين ) أي بحاملين بالفتنة عباده ، إلا من قدر الله في سابق علمه أنه من أهل النار . والضمير في ( عليه ) عائد على ما على حذف مضاف ، كما قلنا ، أي على عبادته . وضمن ( فاتنين ) معنى : حاملين بالفتنة ، و ( من ) مفعولة بـ ( فاتنين ) ، فرغ له العامل إذ لم يكن بـ ( فاتنين ) مفعولا . وقيل : عليه بمعنى : أي ما أنتم بالذي تعبدون بـ ( فاتنين ) ، وبه متعلق بـ ( فاتنين ) ، المعنى : ما أنتم ( فاتنين ) بذلك الذي عبدتموه إلا من سبق عليه القدر أنه يدخل النار . وجعل الزمخشري الضمير في ( عليه ) عائدا على الله ، قال فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله ؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه . ويجوز أن تكون الواو في ( وما تعبدون ) بمعنى ( مع ) مثلها في قولهم : كل رجل وضيعته . فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، جاز أن يسكت على قوله ( فإنكم وما تعبدون ) ; لأن قوله ( وما تعبدون ) ساد مسد الخبر ; لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون ، والمعنى : فإنكم مع آلهتكم ، أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونهم . ثم قال ( ما أنتم عليه ) أي على ما تعبدون ، ( بفاتنين ) بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال ، إلا من هو ضال منكم . انتهى . وكون الواو في ( وما تعبدون ) واو ( مع ) غير متبادر إلى الذهن ، وقطع [ ص: 379 ] ( ما أنتم عليه بفاتنين ) عن ( إنكم وما تعبدون ) ليس بجيد ; لأن اتصافه به هو السابق إلى الفهم مع صحة المعنى ، فلا ينبغي العدول عنه .

وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة : ( صالوا الجحيم ) بالواو ، وهكذا في كتاب الكامل للهذلي . وفي كتاب ابن خالويه عنهما : ( صال ) مكتوبا بغير واو ، وفي كتاب ابن عطية . وقرأ الحسن : ( صالوا ) مكتوبا بالواو ; وفي كتاب اللوامح وكتاب الزمخشري عن الحسن : ( صال ) مكتوبا بغير واو . فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة . حمل أولا على لفظ ( من ) فأفرد ، ثم ثانيا على معناها فجمع ، كقوله ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، حمل في ( يقول ) على لفظ ( من ) ، وفي ( وما هم ) على المعنى ، واجتمع الحمل على اللفظ ، والمعنى في جملة واحدة ، وهي صلة للموصول ، كقوله ( إلا من كان هودا أو نصارى ) . وقول الشاعر :

وأيقظ من كان منكم نياما

ومن لم يثبت الواو احتمل أن يكون جمعا ، وحذفت الواو خطأ ، كما حذفت في حالة الوصل لفظا لأجل التقاء الساكنين . واحتمل أن يكون صال مفردا حذفت لامه تخفيفا ، وجرى الإعراب في عينه ، كما حذف من قوله ( وجنى الجنتين دان ) ، ( وله الجواري المنشآت ) ، برفع النون والجوار ، وقالوا : ما باليت به بالة ، أي بالية من بالى ، كعافية من عافى ، فحذفت لام ( باليت وبالية ) . وقالوا : بالة وبال ، بحذف اللام فيهما . وقال الزمخشري : وقد وجه نحوا من الوجهين السابقين وجعلهما أولا وثالثا فقال : والثاني أن يكون أصله صائلا على القلب ، ثم يقال : صال في صائل ، كقولهم : شاك في شائك . انتهى . ( وما منا ) أي أحد ، ( إلا له مقام معلوم ) أي مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر الله ، مقصور عليه لا يتجاوزه . كما روي : فمنهم راكع لا يقيم ظهره ، وساجد لا يرفع رأسه ، وهذا قول الملائكة ، وهو يقوي قول من جعل الجنة هم الملائكة تبرئوا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله ، وأخبروا عن حال عبوديتهم ، وعلى أي حالة هم فيها . وفي الحديث : " أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي " ، وعن ابن مسعود : " موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه " ، وحذف المبتدأ مع ( من ) جيد فصيح ، كما مر في قوله ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن ) ، أي وإن من أهل الكتاب أحد . وقال العرب : منا ظعن ومنا أقام ، يريد : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام . وقال الزمخشري : وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، كقوله :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا بكفي كان من أرمى البشر انتهى . وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ; لأن أحدا المحذوف مبتدأ . وإلا له مقام معلوم خبره ، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله : وما منا أحد ، فقوله : ( إلا له مقام معلوم ) هو محط الفائدة . وإن تخيل أن ( إلا له مقام معلوم ) في موضع الصفة ، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها ، وأنها فارقت ( غير ) إذا كانت صفة في ذلك ، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن ( إلا ) فيه ، وجعل ذلك كقوله : أنا ابن جلا ، أي ابن رجل جلا ; وبكفي كان ، أي رجل كان ، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات . ( وإنا لنحن الصافون ) أي أقدامنا في الصلاة ، أو أجنحتنا في الهواء ، أو حول العرش داعين للمؤمنين . وقال الزهراوي : قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية ، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين . ( وإنا لنحن المسبحون ) أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة ، أو المنزهون بلفظ التسبيح ، أو المصلون . وينبغي أن يجعل قوله : ( سبحان الله عما يصفون ) من كلام الملائكة ، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد ، فكأنه قيل : ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب ; وقالوا : سبحان الله ، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله ; وقالوا للكفرة : فإنكم وآلهتكم إلى آخره . وكيف نكون مناسبيه ، ونحن عبيد بين يديه ، لكل منا مقام من الطاعة ؟ إلى ما وصفوا [ ص: 380 ] به أنفسهم من رتبة العبودية . وقيل : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) ، هو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله ، من قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا . ثم ذكر أعمالهم ، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال . والضمير في ( ليقولون ) لكفار قريش ، ( لو أن عندنا ذكرا ) أي كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولم نكذب كما كذبوا . ( فكفروا به ) أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه ، وهو أشرف الأذكار ، لإعجازه من بين الكتب . ( فسوف يعلمون ) عاقبة كفرهم ، وما يحل بهم من الانتقام . وأكدوا قولهم بـ ( إن ) المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك ، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ ، كقوله : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) . ( ولقد سبقت كلمتنا ) قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد . وقرأ الضحاك : بالجمع ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة . وقال الحسن : ما غلب نبي في الحرب ، ولا قتل فيها . ( فتول عنهم حتى حين ) أي إلى مدة يسيرة ، وهي مدة الكف عن القتال . وعن السدي : إلى يوم بدر ، ورجحه الطبري . وقال قتادة : إلى موتهم . وقال ابن زيد : إلى يوم القيامة . ( وأبصرهم ) أي انظر إلى عاقبة أمرهم ، فسوف يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل ، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم . وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة ، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها ، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه - عليه السلام . ( أفبعذابنا يستعجلون ) استفهام توبيخ . ( فإذا نزل ) هو ، أي العذاب ، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره ، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم ، فلم يلتفتوا إلى إنذاره ، ولا أخذوا أهبته ، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى أناخ بفنائهم ، فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم . وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحا ، فسميت الغارة صباحا ، وإن وقعت في وقت آخر . وما فصحت هذه الآية ، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها ، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، قاله الزمخشري . وقرأ الجمهور : مبنيا للفاعل ، وابن مسعود : مبنيا للمفعول ، ( وساحتهم ) : هو القائم مقام الفاعل . ونزل ساحة فلان ، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر ; وسوء الصباح : يستعمل في حلول الغارات والرزايات ; ومثل قول الصارخ : يا صباحاه ; وحكم ( ساء ) هنا حكم ( بئس ) . وقرأ عبد الله : فبئس ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : فساء صباح المنذرين صباحهم . ( وتول عنهم حتى حين ) كرر الأمر بالتولي ، تأنيسا له - عليه الصلاة والسلام - ، وتسلية وتأكيدا لوقوع الميعاد ; ولم يقيد أمره بالإبصار ، كما قيده في الأول ، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصارا ، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المسرات ، والإبصار منهم من صنوف المسآت . وقيل : أريد بالأول عذاب الدنيا ، وبالآخرة عذاب الآخرة . وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عن ما يصفه المشركون ، وأضاف الرب إلى نبيه تشريفا له بإضافته وخطابه ، ثم إلى العزة ، وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين ، وكذلك قال الفقهاء من جهة أنها مربوبة . وقال محمد بن سحنون وغيره : من حلف بعزة الله تعالى يريد عزته التي خلقت بين عباده ، وهي التي في قوله : ( رب العزة ) ، فليست بيمين . وقال الزمخشري : أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها ، كأنه قيل : ذو العزة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه بالصدق . انتهى . فعلى هذا تنعقد اليمين بعزة الله لأنها صفة من صفاته . قال : ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك [ ص: 381 ] وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها ، لقوله : ( وتعز من تشاء ) . وعن علي - كرم الله وجهه : " من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : ( سبحان ربك رب العزة ) إلى آخر السورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية