الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وجملة القول : أن المراد من اشتراط الثلاثة الأشياء للكف عن قتال المشركين بعد بلوغ الدعوة ، وظهور الحجة هي تحقق الدخول في جماعة المسلمين بالفعل ، فإن التوبة عن الشرك وحدها وهي الشرط الأول لا تكفي لتأمينهم ، وإباحة دخول المسجد الحرام والحج مع المسلمين ، وسائر المعاملات التي تثبت لمن يقيم في الحجاز وسائر جزيرة العرب ، وإن كان التعبير عن هذه التوبة بالنطق بكلمة التوحيد أو الشهادتين كلتيهما كافيا في موقف القتال للكف عنه كما تقدم آنفا ، ولكنه لا يكفي بعد ذلك لمعاملة من ينطق بهما معاملة المسلمين في عامة الأوقات بل لا بد من التزام شرائع الإسلام ، وإقامة شعائره فمقتضى الشهادة الأولى لمن كان صادقا في النطق بها ترك عبادة غير الله تعالى من دعاء أو ذبيحة أو غيرهما ، ومقتضى الشهادة الثانية طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى ، فإذا لم يكن العمل الذي تقتضيه الشهادتان مؤيدا لهما كانتا خداعا وغشا ، ولما كانت شرائع الإسلام القطعية من فعل وترك كثيرة ، وكان الكثير باشتراط الركنين الأعظمين ، وهما الصلاة التي تجب خمس مرات في كل يوم وليلة ، وهي الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين ، والزكاة وهي الرابطة المالية السياسية الاجتماعية ، ومن أقامهما كان أجدر بإقامة غيرهما .

                          ومن المعلوم بالضرورة أن من قبل من المشركين أن يسلم ويصلي ويؤدي الزكاة ، وامتنع من الإذعان لصيام رمضان والحج مع الاستطاعة لا يعتد بإسلامه أيضا ، وكذلك إذا كان لا يحرم ما حرم الله ورسوله قطعا ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقبل من الأعرابي ما شرطه في إسلامه من إباحة الزنا له ، وإن بين استباحة الذنب ، وعدم الإذعان لحكم الله فيه ، وبين فعله مع الإذعان والإيمان فرقا واضحا وبونا بينا ، ولكن ذهب بعض أئمة العلم إلى [ ص: 155 ] أن للصلاة والزكاة شأنا ليس لغيرهما من أركان الإسلام وشرائعه ، حتى المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة ، وهو أن تركهما يعد كفرا بمعنى الخروج من الملة بعد الدخول في الإسلام أو النشوء فيه ، حتى مع الاعتراف بحقيته ، وكونهما من أركانه ، ويقول بعضهم بأن تاركهما يقتل حدا لا كفرا ، وقال بعضهم بذلك في الصلاة وحدها ، وأن صيام رمضان وحج البيت على المستطيع لا يكفر تاركهما إلا إذا استحل هذا الترك أو جحد وجوبهما بعد العلم الذي تقوم به الحجة ، أي : لأن الاستحلال عبارة عن رفض الإذعان النفسي والفعلي ، وهو كنه الإسلام ، والجحود عبارة عن عدم الاعتقاد أو الاستكبار عنه وهو كنه الإيمان .

                          والآية وحديث ابن عمر في معناهما لا يدلان على أن المسلم إذا ترك بعض الصلوات لكسل ، أو شاغل لا يعد عذرا شرعيا ، يكون بذلك مرتدا عن الإسلام ، تجري عليه أحكام المرتدين إذا لم يتب عقب أول فريضة تركها أو الثانية إن كانت تجمع معها بأن يجدد إسلامه ويصليها ، ولا يدلان كذلك على وجوب قتله حدا كقتل من قتل مؤمنا متعمدا ، لا يدلان على ذلك بمنطوقهما ، ولا بمفهوم الشرط على القول الحق بحجيته ، فإن موضوع كل منهما بيان ما يشترط بالكف عن قتال المشركين المحاربين ، لا بيان لجملة الإسلام ، وما ينافيه ويعد ارتدادا عنه بعد الدخول فيه .

                          فإن قيل : ظاهر لفظ الحديث أنه مطلق عام في قتال كل الكفار ، لا في المشركين كالآية . قلت : أولا : إن الله تعالى جعل لقتال أهل الكتاب في هذه السورة غاية أخرى غير هذه الغاية العامة ، وهي إعطاء الجزية ، وهي ليست ناسخة ، ولا مخصصة للآية لاختلاف موردهما ، وهذا يعارض عموم الحديث ، فيترجح حمله على قتال المشركين كالآية ، ليكون معناه صحيحا محكما ، وكان من فقه البخاري في أبواب صحيحه إيراده تابعا للآية في باب واحد من كتاب الإيمان .

                          ثانيا : إنه على كل حال وارد في بيان الغاية التي ينتهي إليها قتال من يقاتلنا من الكفار . فلا يدخل في معناه بيان ما يصير به المؤمن كافرا .

                          ثالثا : إن قتال الكافرين غير قتل من عساه يستحق القتل من المسلمين ، كما بينه في المسألة بعض العلماء المدققين ، فالقتال فعل مشترك بين فريقين ، والقتل الشرعي تنفيذ حكم على مجرم ثبت عليه .

                          رابعا : من أراد جعل هذا الحديث دالا على غير ما تدل عليه الآية من حكم ردة أو حد بقتل مسلم ، يرد عليه إعلاله بما ينزل به عن درجة الصحة التي يثبت بها مثل هذه الأحكام العظيمة الشأن ، وهو أن في إسناده من الغرابة المضاعفة ما استغرب معه بعض [ ص: 156 ] نقاد الحديث تصحيح الشيخين له من امتناع الإمام أحمد عن إيراده في مسنده على سعته ، وإحاطته بأمثال هذه الأحاديث ، وقد صرح قوم من العلماء باستبعاد صحته كما قال الحافظ في شرحه من الفتح ، وهو مخالف لحديث أبي هريرة الذي خرجه الجماعة كلهم ، وقال بعضهم بتواتره وليس فيه زيادة الصلاة والزكاة وهو أولى بالترجيح ، ثم إنه يعارضه نصوص أخرى من الكتاب والسنة ، وهي التي أخذ بها الجمهور فثبت أن القول بدلالته على ما ذكر اجتهادية ، ولا نكفر مسلما إلا بنص قطعي لا خلاف في روايته ولا في دلالته .

                          هذا - وإن القائلين بكفر تارك الصلاة من العلماء يحتجون بأحاديث أخرى هي أظهر في المسألة من تكلف الاستدلال عليها بهذه الآية وهذا الحديث ، ومع هذا رأينا جمهور الفقهاء المتقدمين والمتأخرين يخالفونهم فيها . أصرح هذه الأحاديث ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث جابر مرفوعا بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة وفي رواية " الشرك " وما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من حديث بريدة مرفوعا العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر يعني بيننا وبين الكفار . وأصرح منهما حديث أنس من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر رواه الطبراني في الأوسط ، والصواب أنه مرسل كما قال الدارقطني .

                          وقد ذهب إلى كفر تارك الصلاة من فقهاء الأمصار أحمد بن حنبل ، وعبد الله بن المبارك ، وإسحاق بن راهويه . ويروى عن علي كرم الله وجهه ، ولكن العترة وجماهير السلف والخلف ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي على أنه لا يكفر بل يفسق فيستتاب ، فإذا لم يتب قتل حدا عند مالك والشافعي وغيرهما . وقال أبو حنيفة وبعض فقهاء الكوفة ، والمزني صاحب الشافعي : لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي ، وحملوا أحاديث التكفير على الجاحد أو المستحل للترك وعارضوها ببعض النصوص العامة ، وحديث لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة متفق عليه من حديث ابن مسعود ، ورواه مسلم وبعض أصحاب السنن من حديث عائشة بما يفسر أو يخصص معنى المفارق للجماعة بالخارج المقاتل ، وهو : " ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض " وقد يقال : [ ص: 157 ] إن ترك الصلاة كفر ومفارقة للجماعة فتاركها لا يدخل في عموم المستثنى منه ، فالحق في الجواب ما تقدم آنفا في سياق بيان حقيقة الإسلام ، ولكن هؤلاء يقولون : يكفر بترك صلاة واحدة ، ويزعم بعض أنصارهم حتى من المستقلين كالشوكاني أن ترك الصلاة يصدق بترك صلاة واحدة ، وهو مردود ، فإن المعنى الكلي كالجنس لا ينتفي بانتفاء فرد من أفراده ، فمن أفطر في يوم من أيام رمضان لا يعد تاركا لفريضة الصيام مطلقا ، ومن ترك بعض الدروس من طلاب العلم لا يعد تاركا لطلب العلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية