الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم هذا بيان للأمر الثاني من أحوال المشركين . نكث الغزل أو الحبل ضد إبرامه ، وهو نقض فتله ، وحل الخيوط التي تألف منها ، وإرجاعها إلى أصلها ، ومنه : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ( 16 : 92 ) والأيمان العهود ، يضع كل من العاقدين للعهد يمينه في يمين الآخر ، أو ما يوثق منها بالقسم كما تقدم . ونكث الأيمان هنا يقابل فيما قبله استقامتهم عليها ، والطعن في ديننا في الجملة التالية يقابل فيما فرض توبتهم من الكفر به بدخولهم في جماعته ، والمعنى : وإن نكث هؤلاء المشركون ما أبرمته أيمانهم أو ما أقسموا عليه أيمانهم من الوفاء بعد عهدهم الذي عقدوه معكم وطعنوا في دينكم أي : عابوه وثلبوه بالاستهزاء به ، وصد الناس عنه وهو الذي عابه عليهم في الآيات المقابلة لهذه ، ومنه الطعن في القرآن وفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دماءهم ، فهذا العطف بيان للواقع ، وإيذان بأن الطعن في الإسلام ضرب من ضروب نكث الأيمان ، ونقض السلم والولاء ، كالقتال ومظاهرة الأعداء ، فهو من عطف الخاص على العام ، وليس المراد به تقييد حل قتالهم بالجمع بين الأمرين ، بل هو كقوله : ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا ( 9 : 4 ) فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم فهم أئمة الكفر أي قادة أهله وحملة لوائه ، فوضع الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع ضميرهم ، وقيل : إن المراد بأئمة الكفر رؤساء المشركين وصناديدهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقودونهم لقتاله ، وذكر بعض من قال هذا منهم أبا سفيان وأبا جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف ممن كان قتل في بدر أو بعدها ، وذلك من الغفلة بمكان ؛ لأن السورة نزلت بعد غزوة [ ص: 173 ] تبوك وبعد فتح مكة ( وفي أثنائه أسلم أبو سفيان ) ، وهذه الأحكام إنما تثبت بعد أربعة أشهر من تاريخ تبليغها في يوم النحر من سنة تسع كما تقدم . وحملها بعضهم على الخوارج ، وبعضهم على فارس والروم ، وبعضهم على المرتدين بجعل الضمائر فيها راجعة إلى الذين تابوا وأقاموا الصلاة إلخ . واختاره الزمخشري إذ قال في تفسير فقاتلوا أئمة الكفر : فقاتلوهم . فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود ، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون : ليس دين محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر ، وذوو الرياسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم . وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله ؛ لأن العهد معقود معه على ألا يطعن ، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة اهـ .

                          ولا أدري ما الذي حمل هؤلاء المفسرين على إخراج الآية عن ظاهرها ، حتى إنهم رووا عن علي وحذيفة ـ رضي الله عنهما ـ أنهما قالا : ما قوتل أهل هذه الآية بعد . يعنون أنها نزلت في قوم يأتون بعد ، وزعم بعضهم أنهم الدجال وقومه من اليهود ، والحق أنها صريحة في مشركي العرب أصحاب العهود مع المؤمنين من بقي منهم ، ويدخل في حكمها كل من كانت حاله مع المؤمنين كحالهم . فكل من يجمع بين عداوتهم بنكث عهودهم ، والطعن في دينهم فيجب عده من أئمة الكفر ولهم حكمهم ، ومن لم يرهم أهلا لعقد العهد معه على قاعدة المساواة فهو أعدى وأظلم ممن ينكثون الأيمان ، وذلك ما نشاهده من الجامعين بين الاعتداء على شعوبنا وبلادنا ، وبث الدعاة فيها للطعن في ديننا ، لصدنا عنه ، واستبدال دينهم به أو جعلنا معطلين لا دين لنا .

                          وقد علل تعالى الأمر بقتالهم بقوله : إنهم لا أيمان لهم أي : إن عهودهم كلا عهود ؛ لأنها مخادعة لسانية لم يقصدوا الوفاء بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ( 48 : 11 ) فهم ينقضونها في أول وهلة يستطيعون فيها ذلك بالظهور أو المظاهرة عليكم ، وقرأ ابن عامر " إيمان " بكسر الهمزة على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان . وقرأ هو وعاصم وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب ( أئمة ) بتحقيق الهمزتين على الأصل ، والباقون بتليين الثانية . وأما قلبها ياء فليس قراءة ولا لغة ، بل هو لحن لا يجوز . كما قالوا : لعلهم ينتهون أي : قاتلوهم راجين بقتالكم إياهم أن ينتهوا عن كفرهم وشركهم وما يحملهم عليه من نكث أيمانهم ، ونقض عهودهم ، والضراوة بقتالكم كلما قدروا عليه ، وهو يتضمن النهي عن القتال اتباعا لهوى النفس أو إرادة منافع الدنيا من سلب وكسب وانتقام محض بالأولى ، وتقدم [ ص: 174 ] نظيره في تفسير فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( 8 : 57 ) وهذا مما امتاز به الإسلام على جميع شرائع الأمم وقوانينها من جعل الحرب ضرورة مقيدة بإرادة منع الباطل ، وتقرير الحق والفضائل .

                          واستدل الحنفية بالآية على أن يمين الكافر لا تنعقد ، ولو كان كذلك لما وجب علينا الوفاء لمن وفى بها منهم واستقام على وفائه والآيات صريحة في الوجوب ، وإنما نفاها عن الناكثين ، وأعلمنا أنهم كانوا عازمين على النكث من أول وهلة ، وهو علام الغيوب ، ولو لم يكن لهم أيمان على الإطلاق لما كان لهم نكث وقد أثبتتهما لهم الآية التالية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية