الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ونرجع الآن إلى الأصل المقصود ، وهو أنه بعد بعثته هل كان متعبدا بشريعة من قبله ؟ والقول في الجواز العقلي والوقوع السمعي ، أما الجواز العقلي فهو حاصل إذ لله تعالى أن يتعبد عباده بما شاء من شريعة سابقة أو مستأنفة أو بعضها سابقة وبعضها مستأنفة ، ولا يستحيل منه شيء لذاته ولا لمفسدة فيه .

              وزعم بعض القدرية أنه لا يجوز بعثة نبي إلا بشرع مستأنف ، فإنه إن لم يجدد أمرا فلا فائدة في بعثته ، ولا يرسل الله تعالى رسولا بغير فائدة . ويلزمهم على هذا [ ص: 166 ] تجويز بعثته بمثل ذلك الشريعة إذا كانت قد اندرست وإرساله بمثلها إذا كانت قد اشتملت على زوائد ، وأن يكون الأول مبعوثا إلى قوم ، والثاني مبعوثا إليهم وإلى غيرهم ، ولعلهم يخالفون إذا كانت الأولى غضة طرية ولم تشتمل الثانية على مزيد فنقول : يدل على جوازه ما يدل على جواز نصب دليلين وبعثة رسولين معا كما قال تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } وكما أرسل موسى وهارون وداود وسليمان ، بل كخلق العينين مع الاكتفاء في الإبصار بإحداهما .

              ثم كلامهم بناء على طلب الفائدة في أفعال الله تعالى ، وهو تحكم أما الوقوع السمعي فلا خلاف في أن شرعنا ليس بناسخ جميع الشرائع بالكلية إذ لم ينسخ وجوب الإيمان وتحريم الزنا والسرقة والقتل والكفر ، ولكن حرم عليه صلى الله عليه وسلم هذه المحظورات بخطاب مستأنف أو بالخطاب الذي نزل إلى غيره وتعبد باستدامته ولم ينزل عليه الخطاب إلا بما خالف شرعهم ، فإذا نزلت واقعة لزمه اتباع دينهم إلا إذا نزل عليه وحي مخالف لما سبق فإلى هذا يرجع الخلاف ، والمختار أنه لم يتعبد صلى الله عليه وسلم بشريعة من قبله ، ويدل عليه أربعة مسالك :

              المسلك الأول : { أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : بم تحكم ؟ قال : بالكتاب والسنة والاجتهاد } ولم يذكر التوراة والإنجيل وشرع من قبلنا فزكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصوبه .

              ولو كان ذلك من مدارك الأحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه . فإن قيل : إنما لم يذكر التوراة والإنجيل ; لأن في الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما . قلنا سنبين سقوط تمسكهم بتلك الآيات ، بل فيه قوله تعالى { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال صلى الله عليه وسلم { لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي } .

              ثم نقول : في الكتاب ما يدل على اتباع السنة والقياس فكان ينبغي أن يقتصر على ذكر الكتاب ، فإن شرع في التفصيل كانت الشريعة السابقة أهم مذكور . فإن قيل : اندرجت التوراة والإنجيل تحت الكتاب فإنه اسم يعم كل كتاب . قلنا : إذا ذكر الكتاب والسنة لم يسبق إلى فهم المسلمين شيء سوى القرآن ، وكيف يفهم غيره ولم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل والعناية بتمييز المحرف عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن ؟ ولو وجب ذلك لتعلمه جميع الصحابة ; لأنه كتاب منزل لم ينسخ إلا بعضه وهو مدرك بعض الأحكام ولم يتعهد حفظ القرآن إلا لهذه العلة ، وكيف { وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناه وقال : لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ؟ } .

              المسلك الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها ، ولكان لا ينتظر الوحي ولا يتوقف في الظهار ورمي المحصنات والمواريث ، ولكان يرجع أولا إليها لا سيما أحكام هي ضرورة كل أمة فلا تخلو التوراة عنها ، فإن لم يراجعها لاندراسها وتحريفها فهذا يمنع التعبد ، وإن كان ممكنا فهذا يوجب البحث والتعلم ولم يراجع قط إلا في رجم اليهود ليعرفهم أن ذلك ليس مخالفا لدينهم .

              [ ص: 167 ] المسلك الثالث : أن ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ، ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الأحكام كما وجب عليهم المناشدة في نقل الأخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة وبيع أم الولد وحد الشرب والربا في غير النسيئة ومتعة النساء ودية الجنين وحكم المكاتب إذا كان عليه شيء من النجوم والرد بالعيب بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك من أحكام لا تنفك الأديان والكتب عنها ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من أحبارهم من تقوم الحجة بقولهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب وغيرهم ، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب ، فكيف يحصل القياس قبل العلم ؟

              المسلك الرابع : إطباق الأمة قاطبة على أن هذه الشريعة ناسخة ، وأنها شريعة رسولنا صلى الله عليه وسلم بجملتها ، ولو تعبد بشرع غيرها لكان مخبرا لا شارعا ، ولكان صاحب نقل لا صاحب شرع .

              إلا أن هذا ضعيف ; لأنه إضافة تحتمل المجاز ، وأن يكون معلوما بواسطته ، وإن لم يكن هو شارعا لجميعه ، وللمخالف التمسك بخمس آيات وثلاثة أحاديث :

              الآية الأولى : أنه تعالى لما ذكر الأنبياء قال : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } قلنا أراد بالهدى التوحيد ، ودلالة الأدلة العقلية على وحدانيته وصفاته بدليلين :

              أحدهما : أنه قال : { فبهداهم اقتده } ولم يقل بهم ، وإنما هداهم الأدلة التي ليست منسوبة إليهم ، أما الشرع فمنسوب إليهم فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم .

              الثاني : أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة وناسخة ومنسوخة ومتى بحث عن جميع ذلك ، وشرائعهم كثيرة ، فدل على أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم وهو التوحيد .

              الآية الثانية : قوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } وهذا يتمسك به من نسبه إلى إبراهيم عليه السلام ، وتعارضه الآية الأولى . ثم لا حجة فيها إذ قال : { أوحينا إليك } فوجب بما أوحى إليه لا بما أوحي إلى غيره وقوله : { أن اتبع } أي : افعل مثل فعله ، وليس معناه كن متبعا له وواحدا من أمته ، كيف والملة عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع ؟ ولذلك قال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } ولا يجوز تسفيه الأنبياء المخالفين له .

              ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم ، وكيف كان يبحث مع اندراس كتابه وإسناد أخباره ؟

              الآية الثالثة : قوله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } وهذا يتمسك به من نسبه إلى نوح عليه السلام . وهو فاسد ، إذ تعارضه الآيتان السابقتان . ثم الدين عبارة عن أصل التوحيد ، وإنما خصص نوحا بالذكر تشريفا له وتخصيصا ، ومتى راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيل شرع نوح ؟ وكيف أمكن ذلك مع أنه أقدم الأنبياء وأشد الشرائع اندراسا ؟ كيف وقد قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } فلو قال شرع لنوح ما وصاكم به " لكان ربما دل هذا على غرضهم ، وأما هذا فيصرح بضده .

              الآية الرابعة : قوله تعالى { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون } الآية ، وهو أحد الأنبياء [ ص: 168 ] فليحكم بها . واستدل بهذا من نسبه إلى موسى عليه السلام ، وتعارضه الآيات السابقة . ثم المراد بالنور والهدى أصل التوحيد وما يشترك فيه النبيون دون الأحكام المعرضة للنسخ ، ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم ، ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الأمر فلا حجة فيه . ثم يجوز أن يكون المراد حكم النبيين بها بأمر ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام .

              الآية الخامسة : قوله تعالى بعد ذكر التوراة وأحكامها : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قلنا : المراد به ومن لم يحكم بما أنزل الله مكذبا به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة أو من لم يحكم به ممن أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم أو يكون المراد به : يحكم بمثلها النبيون ، وإن كان بوحي خاص إليهم لا بطريق التبعية .

              وأما الأحاديث فأولها : { أنه صلى الله عليه وسلم طلب منه القصاص في سن كسرت ، فقال : كتاب الله يقضي بالقصاص } وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى : { والسن بالسن } . قلنا : بل فيه { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }

              الحديث الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقرأ قوله تعالى : { وأقم الصلاة لذكري } } وهذا خطاب مع موسى عليه السلام .

              قلنا : ما ذكره صلى الله عليه وسلم تعليلا للإيجاب ، لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى وقوله { لذكري } أي : لذكر إيجابي للصلاة ، ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر الله تعالى بالقلب أو لذكر الصلاة بالإيجاب .

              الحديث الثالث : مراجعته صلى الله عليه وسلم التوراة في رجم اليهوديين وكان ذلك تكذيبا لهم في إنكار الرجم إذ كان يجب أن يراجع الإنجيل فإنه آخر ما أنزل الله ، فلذلك لم يراجع في واقعة سوى هذه والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية