الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم هو نهي عن حلق الرأس في الإحرام للحاج والمعتمر جميعا ؛ لأنه معطوف على قوله : وأتموا الحج والعمرة لله قد اقتضى حظر حلق بعضنا رأس بعض وحلق كل واحد رأس نفسه ، لاحتمال اللفظ للأمرين ، كقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم اقتضى النهي عن قتل كل واحد منا لنفسه ولغيره . فيدل ذلك على أن المحرم محظور عليه حلق رأس غيره ، ومتى فعله لزمه الجزاء ، ويدل على أن الذبح مقدم على الحلق في القران والتمتع ؛ لأنه عموم في كل من عليه حلق وهدي في وقت واحد ، فيحتج فيمن حلق قبل أن يذبح أن عليه دما لمواقعته المحظور في تقديم الحلق على الهدي . وقد اختلفوا في المحصر هل عليه حلق أم لا ؟ فقال أبو حنيفة ومحمد : " لا حلق عليه " . وقال أبو يوسف في إحدى الروايتين : " يحلق ، فإن لم يحلق فلا شيء عليه " وروي عنه أنه لا بد من الحلق . ولم يختلفوا في المرأة تحرم تطوعا بغير إذن زوجها ، والعبد يحرم بغير إذن مولاه ، أن للزوج والمولى أن يحللاهما بغير حلق ولا تقصير ، وذلك بأن يفعل بهما أدنى ما يحظره الإحرام من طيب أو لبس . وهذا يدل على أن الحلق غير واجب على المحصر ؛ لأن هذين بمنزلة المحصر ، وقد جاز لمن يملك إحلالهما أن يحللهما بغير حلق ، ولو كان الحلق واجبا وهو ممكن لكان عليه أن يحلل العبد بالحلق والمرأة بالتقصير . وأيضا فالحلق إنما ثبت نسكا مرتبا على قضاء المناسك ، ولم يثبت على غير هذا الوجه ، فغير جائز إثباته نسكا إلا عند قيام الدلالة ؛ إذ قد ثبت أن الحلق في الأصل ليس بنسك ؛ ويقاس بهذه العلة على العبد والمرأة أن المولى والزوج لما جاز لهما إحلال العبد والمرأة بغير حلق ولا تقصير إذا لم يفعلا سائر المناسك التي رتب عليها الحلق ، وجب أن يجوز لسائر المحصرين الإحلال بغير حلق لهذه العلة ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين أمرها برفض العمرة قبل استيعاب أفعالها : انقضي [ ص: 344 ] رأسك وامتشطي ودعي العمرة واغتسلي وأهلي بالحج فلم يأمرها بالحلق ولا بالتقصير حين لم تستوعب أفعال العمرة ، فدل ذلك على أن من جاز له الإحلال من إحرامه قبل قضاء المناسك فليس عليه الإحلال بالحلق . وفيه دليل على أن الحلق مرتب على قضاء المناسك كترتيب سائر أفعال المناسك بعضها على بعض ، وقد احتج محمد لذلك بأنه لما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق . ويحتمل ذلك من قوله وجهين :

أحدهما : أن يكون مراده المعنى الذي ذكرنا أن الحلق مرتب على قضاء المناسك ، فلما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق . ويحتمل أنه لما كان الحلق إذا وجب في الإحرام كان نسكا ، وقد سقط عن المحصر سائر المناسك ، وجب أن يسقط عنه الحلق .

فإن قيل : إنما سقط عنه سائر المناسك لتعذر فعلها ، والحلق غير متعذر فعليه فعله . قيل له : هذا غلط ؛ لأن المحصر لو أمكنه الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار ولم يمكنه الوصول إلى البيت ولا الوقوف بعرفة لا يلزمه الوقوف بالمزدلفة ولا رمي الجمار مع إمكانهما ؛ لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما . كذلك لما كان الحلق مرتبا على أفعال أخر ، لم يكن فعله قبلهما نسكا فقد سقط بما ذكرنا اعتراض السائل لوجودنا مناسك يمكنه فعلها ، ولم تلزمه مع ذلك عند كونه محصرا . فإن احتج محتج لأبي يوسف بقوله : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فجعل بلوغه محله غاية لزوال الحظر ، وواجب أن يكون حكم الغاية بضد ما قبلها ، فيكون تقديره : " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فإذا بلغ فاحلقوا " وذلك يقتضي وجوب الحلق . قيل له : هذا غلط ؛ لأن الإباحة هي ضد الحظر كما أن الإيجاب ضده ، فليست في صرفه إلى أحد الضدين وهو الإيجاب بأولى من الآخر وهو الإباحة . وأيضا فإن ارتفاع الحظر غير موجب لفعل ضده على جهة الإيجاب ، وإنما الذي يقتضيه زوال الحظر بقاء الشيء على ما كان عليه قبله فيكون بمنزلته قبل الإحرام ، فإن شاء حلق وإن شاء ترك ؛ ألا ترى أن زوال حظر البيع بفعل الجمعة وزوال حظر الصيد بالإحلال لم يقتض إيجاب البيع ولا الاصطياد وإنما اقتضى إباحتهما ؟ ويحتج لأبي يوسف بقول النبي صلى الله عليه وسلم رحم الله المحلقين ثلاثا ، ودعا للمقصرين مرة ، وذلك في عمرة الحديبية عند الإحصار ؛ فدل ذلك على أنه نسك ، وإذا كان نسكا وجب فعله كما يجب عند قضاء المناسك لغير المحصر . والجواب : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتد عليهم الحلق والإحلال قبل الطواف بالبيت ، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال [ ص: 345 ] توقفوا رجاء أن يمكنهم الوصول وأعاد عليهم القول ؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فنحر هديه وحلق رأسه ، فلما رأوه كذلك حلق بعض وقصر بعض ، فدعا للمحلقين لمبالغتهم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ومسارعتهم إلى أمره ، ولما قيل له : يا رسول الله دعوت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة فقال : إنهم لم يشكوا ومعنى ذلك أنهم لم يشكوا أن الحلق أفضل من التقصير ، فاستحقوا من الثواب بعلمهم لذلك ما لم يستحقه الآخرون .

فإن قيل : فكيفما جرى الأمر فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحلق وأمره على الوجوب ، ودعاؤه للفريقين من المحلقين والمقصرين دليل على أنه نسك ، وما ذكرته من أن القوم كرهوا الحلق قبل الوصول إلى البيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم به ، ليس بناف وجه الدلالة منه على كونه نسكا . فإنه يقال : قد روى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قصة الحديبية فقالا فيه : فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أحلوا وانحروا وذكر في بعض الأخبار الحلق . فنستعمل اللفظين ، فنقول : ما حل به من شيء فهو حلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : أحلوا وقوله : احلقوا المقصد به الإحلال لا تعيينه بالحلق دون غيره ، وإنما استحقوا الثواب لإحلالهم وائتمارهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الحلق أفضل من التقصير لجدهم واجتهادهم في متابعة أمره صلى الله عليه وسلم والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية