الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الخامسة : اعلم أن البكر من الرجال والنساء ، إذا زنا وجب جلده مائة جلدة كما هو نص الآية الكريمة ، ولا خلاف فيه ، ولكن العلماء اختلفوا هل يغرب سنة مع جلده مائة أو لا يغرب ؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن البكر يغرب سنة مع الجلد . قال ابن قدامة في " المغني " : وهو قول جمهور أهل العلم ، روي ذلك عن الخلفاء الراشدين ، وبه قال أبي وابن مسعود ، وابن عمر - رضي الله عنهم - ، وإليه ذهب عطاء ، وطاوس ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال مالك والأوزاعي : يغرب الرجل دون المرأة ، وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يجب التغريب على ذكر ولا أنثى ، وقال النووي في شرح مسلم : قال الشافعي والجماهير : ينفى سنة رجلا كان أو امرأة . وقال الحسن : لا يجب النفي ، وقال مالك والأوزاعي : لا نفي على النساء ، وروي مثله عن علي - رضي الله عنه - إلى أن قال : وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 409 ] أحدها : يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث ، وبهذا قال سفيان الثوري ، وأبو ثور ، وداود ، وابن جرير .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : يغرب نصف سنة ; لقوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا ، وهذه الآية مخصصة لعموم الحديث ، والصحيح عند الأصوليين : جواز تخصيص السنة بالكتاب ; لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة به أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : لا يغرب المملوك أصلا ، وبه قال الحسن البصري ، وحماد ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الأمة إذا زنت " : فليجلدها " ، ولم يذكر النفي ، ولأن نفيه يضر سيده مع أنه لا جناية من سيده ، وأجاب أصحاب الشافعي عن حديث الأمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرض للنفي ، والآية ظاهرة في وجوب النفي ، فوجب العمل بها ، وحمل الحديث على موافقتها ، والله أعلم ، اهـ كلام النووي ، وقوله : إن الآية ظاهرة في وجوب النفي ليس بظاهر ، فانظره .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، وأن الأئمة الثلاثة : مالكا ، والشافعي ، وأحمد ، متفقون على تغريب الزاني البكر الحر الذكر ، وإن وقع بينهم خلاف في تغريب الإناث والعبيد ، وعلمت أن أبا حنيفة ، ومن ذكرنا معه يقولون : بأنه لا يجب التغريب على الزاني مطلقا ذكرا كان أو أنثى ، حرا أو عبدا ، فهذه تفاصيل أدلتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الذين قالوا : يغرب البكر الزاني سنة ، فاحتجوا بأن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وباقي الجماعة في حديث العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده ، وفيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام " الحديث ، وفيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - برواية صحابيين جليلين أنه أقسم ليقضين بينهما بكتاب الله ، ثم صرح بأن من ذلك القضاء بكتاب الله جلد ذلك الزاني البكر مائة وتغريبه عاما ، وهذا أصح نص وأصرحه في محل النزاع . ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره وهو حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي قدمناه ، وفيه " : البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة " ، وهو أيضا نص صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريح في محل النزاع ، واحتج الحنفية ومن وافقهم من الكوفيين على عدم التغريب بأدلة :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 410 ] منها : أن التغريب سنة زيادة على قوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، والمقرر في أصول الحنفية هو أن الزيادة على النص نسخ له ، وإذا كانت زيادة التغريب على الجلد في الآية تعتبر نسخا للآية فهم يقولون : إن الآية متواترة ، وأحاديث التغريب أخبار آحاد ، والمتواتر عندهم لا ينسخ بالآحاد ، وقد قدمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك أن كلا الأمرين ليس بمسلم ، أما الأول منهما وهو أن كل زيادة على النص ، فهي ناسخة له ليس بصحيح ; لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق ، إلا إن كانت مثبتة شيئا قد نفاه النص أو نافية شيئا أثبته النص ، أما إذا كانت زيادة شيء سكت عنه النص السابق ، ولم يتعرض لنفيه ، ولا لإثباته فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية ، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد دليل ناقل عنه ، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتا بدليل شرعي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا [ 6 \ 145 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي سورة " الحج " في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل على آيات " الحج " وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الأمر الثاني : وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد ; فقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على آية " الأنعام " المذكورة آنفا ، أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطا لا شك فيه ، وأن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد ; إذا ثبت تأخرها عنه ، ولا منافاة بينهما أصلا ، حتى يرجح المتواتر على الآحاد ، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين ; لأن كلا منهما حق في وقته ، فلو قالت لك جماعة من العدول : إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن ، ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته ، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحق بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة ; لأن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم ، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك فأخبرك ذلك الإنسان بقدومه وهو صادق ، وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور ; فالمتواتر في وقته قطعي ، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي ، [ ص: 411 ] فنسخه بالآحاد إنما نفى استمرار حكمه ، وقد عرفت أنه ليس بقطعي ، كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم على عدم التغريب : حديث سهل بن سعد الساعدي عند أبي داود ، وقد قدمناه : أن رجلا أقر عنده - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة سماها فأنكرت أن تكون زنت ، فجلده الحد ، وتركها ، وما رواه أبو داود أيضا عن ابن عباس : أن رجلا من بكر بن ليث أقر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة أربع مرات ، وكان بكرا فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ، وسأله - صلى الله عليه وسلم - البينة على المرأة إذ كذبته ، فلم يأت بها ; فجلده حد الفرية ثمانين جلدة ، قالوا : ولو كان التغريب واجبا لما أخل به النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم أيضا : الحديث الصحيح " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها " الحديث ، وهو متفق عليه ، ولم يذكر فيه التغريب مع الجلد ، فدل ذلك على أن التغريب منسوخ ، وهذا الاستدلال لا ينهض لمعارضة النصوص الصحيحة الصريحة التي فيها إقسامه - صلى الله عليه وسلم - أن الجمع بين جلد البكر ، ونفيه سنة قضاء منه - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وإيضاح ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله ، وهذا النص الصحيح بالغ من الصراحة في محل النزاع ، ما لم يبلغه شيء آخر يعارض به .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين ، وقد أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله ، قال : وخطب بذلك عمر - رضي الله عنه - على رءوس المنابر ، وعمل به الخلفاء الراشدون ، ولم ينكره أحد فكان إجماعا ، اهـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر مرجحات أخرى متعددة لوجوب التغريب .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل : أن حديث أبي داود الذي استدلوا به من حديث سهل بن سعد وابن عباس ليس فيه ذكر التغريب ، ولا التصريح بعدمه ، ولم يعلم هل هو قبل حديث الإقسام ، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله أو بعده ؟ فعلى أن المتأخر الإقسام المذكور فالأمر واضح ، وعلى تقدير أن الإقسام هو المتقدم ، فذلك التصريح ، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله مع الإقسام على ذلك لا يصح رفعه بمحتمل ; ولو تكررت الروايات به تكررا كثيرا ، وعلى أنه لا يعرف المتقدم منهما كما هو الحق ، فالحديث المتفق عليه عن صحابيين جليلين هما : أبو هريرة ، وزيد بن خالد الجهني الذي فيه الإقسام بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله ، لا شك في تقديمه على حديث أبي داود الذي هو دونه في السند والمتن . أما [ ص: 412 ] كونه في السند فظاهر ، وأما كونه في المتن فلأن حديث أبي داود ليس فيه التصريح بنفي التغريب ، والصريح مقدم على غير الصريح كما هو معروف في الأصول ، وبه تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه جمع الجلد والتغريب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الاستدلال بحديث الأمة فليس بوجيه لاختلاف الأمة والأحرار في أحكام الحد ، فهي تجلد خمسين ، ولو محصنة ، ولا ترجم ، والأحرار بخلاف ذلك ، فأحكام الأحرار والعبيد في الحدود قد تختلف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بينت آية " النساء " اختلاف الحرة والأمة في حكم حد الزنا من جهتين :

                                                                                                                                                                                                                                      إحداهما : أنها صرحت بأنها إن كانت محصنة ، فعليها الجلد لا الرجم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثانية : أن عليها نصفه ، وذلك في قوله : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، فتأمل قوله : فإذا أحصن ، وقوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، يظهر لك ما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما ذكرنا تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه هو وجوب تغريب البكر سنة مع جلده مائة لصراحة الأدلة الصحيحة في ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية