الأصل الثالث
nindex.php?page=treesubj&link=22147_22148_22150_22149من الأصول الموهومة : الاستحسان . وقد قال به
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي من استحسن فقد شرع ، ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان . وله ثلاثة معان : الأول ، وهو الذي يسبق إلى الفهم : ما يستحسنه المجتهد بعقله ، ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلا بل لورود الشرع بأن ما سبق أوهامكم واستحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى أوهام العوام مثلا فهو حكم الله عليكم لجوزناه ، ولكن وقوع التعبد لا يعرف من ضرورة العقل ونظره بل من السمع ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل آحاد ، ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد ، فإن جعل الاستحسان مدركا من مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع وأصلا من الأصول لا يثبت بخبر الواحد ، ومهما انتفى الدليل وجب النفي .
المسلك الثاني : أنا نعلم قطعا إجماع الأمة قبلهم
[ ص: 172 ] على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة ، والاستحسان من غير نظر في أدلة الشرع حكم بالهوى المجرد وهو كاستحسان العامي ومن لا يحسن النظر ، فإنه إنما جوز الاجتهاد للعالم دون العامي ; لأنه يفارقه في معرفة أدلة الشريعة وتمييز صحيحها من فاسدها ، وإلا فالعامي أيضا يستحسن ، ولكن يقال : لعل مستند استحسانك وهم وخيال لا أصل له .
ونحن نعلم أن النفس لا تميل إلى الشيء إلا بسبب مميل إليه ، لكن السبب ينقسم إلى ما هو وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يتحصل منه طائل ، وإلى ما هو مشهور من أدلة الشرع ، فلم يميز المستحسن ميله عن الأوهام وسوابق الرأي إذا لم ينظر في الأدلة ولم يأخذ منها . ولهم شبه ثلاث :
الشبهة الأولى : قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=55واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=18الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } .
قلنا : اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة ، فبينوا أن هذا مما أنزل إلينا فضلا عن أن يكون من أحسنه وهو كقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=55واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } ثم
نقول : نحن نستحسن
nindex.php?page=treesubj&link=22150إبطال الاستحسان وأن لا يكون لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة ، فليكن هذا حجة عليهم . الجواب الثاني : أن يلزم من ظاهر هذا اتباع استحسان العامي والطفل والمعتوه لعموم اللفظ .
فإن قلتم : المراد به بعض الاستحسانات وهو استحسان من هو من أهل النظر ، فكذلك
نقول : المراد كل استحسان صدر عن أدلة الشرع ، وإلا فأي وجه لاعتبار أهلية النظر في الأدلة مع الاستغناء عن النظر ؟
الشبهة الثانية : قوله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34364ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن } . ولا حجة فيه من أوجه .
الأول : أنه خبر واحد لا تثبت به الأصول .
الثاني : أن المراد به ما رآه جميع المسلمين ; لأنه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو آحادهم ، فإن أراد الجميع فهو صحيح إذ الأمة لا تجتمع على حسن شيء إلا عن دليل ، والإجماع حجة ، وهو مراد الخبر .
وإن أراد الآحاد لزم استحسان العوام ، فإن فرق بأنهم ليسوا أهلا للنظر
قلنا : إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة لأهلية النظر .
الثالث : أن الصحابة أجمعوا على استحسان منع الحكم بغير دليل ، ولا حجة ; لأنهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والأشباه وما قال واحد حكمت بكذا وكذا لأني استحسنته ولو قال ذلك لشددوا الإنكار عليه وقالوا : من أنت حتى يكون استحسانك شرعا وتكون شارعا لنا وما قال
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ حيث بعثه إلى
اليمن إني أستحسن بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط .
الشبهة الثالثة : أن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء ولا تقدير مدة السكون واللبث فيه ، وكذلك شرب الماء من يد السقاء بغير تقدير العوض ولا مبلغ الماء المشروب ; لأن التقدير في مثل هذا قبيح في العادات ، فاستحسنوا ترك المضايقة فيه ، ولا يحتمل ذلك في إجارة ولا بيع والجواب من وجهين :
الأول : أنهم من أين عرفوا أن الأمة فعلت ذلك من غير حجة ودليل لعل الدليل جريان ذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ ص: 173 ] مع معرفته به وتقريره عليه لأجل المشقة في تقدير الماء المشروب والمصبوب في الحمام وتقدير مدة المقام والمشقة سبب الرخصة
الثاني : أن
نقول شرب الماء بتسليم السقاء مباح ، وإذا أتلف ماءه فعليه ثمن المثل ، إذ قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما بذله في الغالب ، وما يبذل له في الغالب يكون ثمن المثل فيقبله السقاء ، فإن منع فعليه مطالبته فليس في هذا إلا الاكتفاء في معرفة الإباحة بالمعاطاة والقرينة وترك المماكسة في العوض ، وهذا مدلول عليه من الشرع .
وكذلك داخل الحمام مستبيح بالقرينة ومتلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي ، ثم ما يبذله إن ارتضى به الحمامي واكتفى به عوضا أخذه ، وإلا طالبه بالمزيد إن شاء ، فليس هذا أمرا مبدعا ولكنه منقاس ، والقياس حجة التأويل الثاني للاستحسان قولهم : المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إبرازه وإظهاره وهذا هوس ; لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه الأدلة أو تزيفه ، أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أي يعلم جوازه أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد ؟ ولا وجه لدعوى شيء من ذلك ، كيف وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت وقال زنى فيها فالقياس أن لا حد عليه ، لكنا نستحسن حده فيقول له : لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ لم تجتمع شهادة الأربعة على زنا واحد ، وغايته أن يقول : تكذيب المسلمين قبيح وتصديقهم وهم عدول حسن فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت فإن تقدير التزاحف بعيد وهذا هوس ; لأنا نصدقهم ولا نرجم المشهود عليه ، كما لو شهد ثلاثة وكما لو شهدوا في دور ، وندرأ الرجم من حيث لم نعلم يقينا اجتماع الأربعة على شهادة واحدة ، فدرء الحد بالشبهة أحسن ، كيف ؟ وإن كان هذا دليلا فلا ننكر الحكم بالدليل ، ولكن لا ينبغي أن يسمى بعض الأدلة استحسانا التأويل الثالث : للاستحسان ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15071الكرخي وبعض أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ممن عجز عن نصرة الاستحسان وقال : ليس هو عبارة عن قول بغير دليل بل هو بدليل ، وهو أجناس : منها العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن مثل قوله : مالي صدقة لله أو علي أن أتصدق بمالي ، فالقياس لزوم التصدق بكل ما يسمى مالا ، لكن استحسن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة التخصيص بمال الزكاة لقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=103خذ من أموالهم صدقة } ولم يرد إلا مال الزكاة .
ومنها أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة كالفرق في سبق الحدث والبناء على الصلاة بين السبق والتعمد على خلاف قياس الأحداث ، وهذا مما لا ينكر ، وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة ، والله أعلم .
الْأَصْلُ الثَّالِثُ
nindex.php?page=treesubj&link=22147_22148_22150_22149مِنْ الْأُصُولِ الْمَوْهُومَةِ : الِاسْتِحْسَانُ . وَقَدْ قَالَ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ ، وَرَدُّ الشَّيْءِ قَبْلَ فَهْمِهِ مُحَالٌ فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ فَهْمِ الِاسْتِحْسَانِ . وَلَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ ، وَهُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ : مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّا نُجَوِّزُ وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِاتِّبَاعِهِ عَقْلًا بَلْ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِأَنَّ مَا سَبَقَ أَوْهَامَكُمْ وَاسْتَحْسَنْتُمُوهُ بِعُقُولِكُمْ أَوْ سَبَقَ إلَى أَوْهَامِ الْعَوَامّ مَثَلًا فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَجَوَّزْنَاهُ ، وَلَكِنَّ وُقُوعَ التَّعَبُّدِ لَا يُعْرَفُ مِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَنَظَرِهِ بَلْ مِنْ السَّمْعِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ سَمْعٌ مُتَوَاتِرٌ وَلَا نَقْلُ آحَادٍ ، وَلَوْ وَرَدَ لَكَانَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، فَإِنْ جُعِلَ الِاسْتِحْسَانُ مُدْرَكًا مِنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَأَصْلًا مِنْ الْأُصُولِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَمَهْمَا انْتَفَى الدَّلِيلُ وَجَبَ النَّفْيُ .
الْمَسْلَكُ الثَّانِي : أَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا إجْمَاعَ الْأُمَّةِ قَبْلَهُمْ
[ ص: 172 ] عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ ، وَالِاسْتِحْسَانُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ حُكْمٌ بِالْهَوَى الْمُجَرَّدِ وَهُوَ كَاسْتِحْسَانِ الْعَامِّيِّ وَمَنْ لَا يُحْسِنُ النَّظَرَ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا جُوِّزَ الِاجْتِهَادُ لِلْعَالِمِ دُونَ الْعَامِّيِّ ; لِأَنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي مَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ وَتَمْيِيزِ صَحِيحِهَا مِنْ فَاسِدِهَا ، وَإِلَّا فَالْعَامِّيُّ أَيْضًا يَسْتَحْسِنُ ، وَلَكِنْ يُقَالُ : لَعَلَّ مُسْتَنَدَ اسْتِحْسَانِك وَهْمٌ وَخَيَالٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّفْسَ لَا تَمِيلُ إلَى الشَّيْءِ إلَّا بِسَبَبٍ مُمِيلٍ إلَيْهِ ، لَكِنَّ السَّبَبَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ وَهْمٌ وَخَيَالٌ إذَا عُرِضَ عَلَى الْأَدِلَّةِ لَمْ يَتَحَصَّلْ مِنْهُ طَائِلٌ ، وَإِلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ ، فَلَمْ يُمَيِّزْ الْمُسْتَحْسِنُ مَيْلَهُ عَنْ الْأَوْهَامِ وَسَوَابِقِ الرَّأْيِ إذَا لَمْ يَنْظُرْ فِي الْأَدِلَّةِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا . وَلَهُمْ شُبَهٌ ثَلَاثٌ :
الشُّبْهَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=55وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=18الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } .
قُلْنَا : اتِّبَاعُ أَحْسَنِ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا هُوَ اتِّبَاعُ الْأَدِلَّةِ ، فَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا مِمَّا أُنْزِلَ إلَيْنَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْسَنِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=55وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } ثُمَّ
نَقُولُ : نَحْنُ نَسْتَحْسِنُ
nindex.php?page=treesubj&link=22150إبْطَالَ الِاسْتِحْسَانِ وَأَنْ لَا يَكُونَ لَنَا شَرْعٌ سِوَى الْمُصَدَّقِ بِالْمُعْجِزَةِ ، فَلْيَكُنْ هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ . الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنْ يَلْزَمَ مِنْ ظَاهِرِ هَذَا اتِّبَاعُ اسْتِحْسَانِ الْعَامِّيِّ وَالطِّفْلِ وَالْمَعْتُوهِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ .
فَإِنْ قُلْتُمْ : الْمُرَادُ بِهِ بَعْضُ الِاسْتِحْسَانَاتِ وَهُوَ اسْتِحْسَانُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ ، فَكَذَلِكَ
نَقُولُ : الْمُرَادُ كُلُّ اسْتِحْسَانٍ صَدَرَ عَنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ ، وَإِلَّا فَأَيُّ وَجْهٍ لِاعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النَّظَرِ ؟
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34364مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } . وَلَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ .
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْأُصُولُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا رَآهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ آحَادِهِمْ ، فَإِنْ أَرَادَ الْجَمِيعَ فَهُوَ صَحِيحٌ إذْ الْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى حُسْنِ شَيْءٍ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ ، وَهُوَ مُرَادُ الْخَبَرِ .
وَإِنْ أَرَادَ الْآحَادَ لَزِمَ اسْتِحْسَانُ الْعَوَامّ ، فَإِنْ فَرَّقَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلنَّظَرِ
قُلْنَا : إذَا كَانَ لَا يَنْظُرُ فِي الْأَدِلَّةِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِأَهْلِيَّةِ النَّظَرِ .
الثَّالِثِ : أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْسَانِ مَنْعِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلَا حُجَّةٍ ; لِأَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَةِ وَقَائِعِهِمْ تَمَسَّكُوا بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَشْبَاهِ وَمَا قَالَ وَاحِدٌ حَكَمْتُ بِكَذَا وَكَذَا لِأَنِّي اسْتَحْسَنْتُهُ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَشَدَّدُوا الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ وَقَالُوا : مَنْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ اسْتِحْسَانُكَ شَرْعًا وَتَكُونَ شَارِعًا لَنَا وَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذٌ حَيْثُ بَعَثَهُ إلَى
الْيَمَنِ إنِّي أَسْتَحْسِنُ بَلْ ذَكَرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاجْتِهَادَ فَقَطْ .
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ الْأُمَّةَ اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةِ وَعِوَضِ الْمَاءِ وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ السُّكُونِ وَاللُّبْثِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ شُرْبِ الْمَاءِ مِنْ يَدِ السَّقَّاءِ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ وَلَا مَبْلَغِ الْمَاءِ الْمَشْرُوبِ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي مِثْلِ هَذَا قَبِيحٌ فِي الْعَادَاتِ ، فَاسْتَحْسَنُوا تَرْكَ الْمُضَايَقَةِ فِيهِ ، وَلَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِي إجَارَةٍ وَلَا بَيْعٍ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ مِنْ أَيْنَ عَرَفُوا أَنَّ الْأُمَّةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ لَعَلَّ الدَّلِيلَ جَرَيَانُ ذَلِكَ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[ ص: 173 ] مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَتَقْرِيرِهِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ فِي تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمَشْرُوبِ وَالْمَصْبُوبِ فِي الْحَمَّامِ وَتَقْدِيرُ مُدَّةِ الْمَقَامِ وَالْمَشَقَّةِ سَبَبُ الرُّخْصَةِ
الثَّانِي : أَنْ
نَقُولَ شُرْبُ الْمَاءِ بِتَسْلِيمِ السَّقَّاءِ مُبَاحٌ ، وَإِذَا أَتْلَفَ مَاءَهُ فَعَلَيْهِ ثَمَنُ الْمِثْلِ ، إذْ قَرِينَةُ حَالِهِ تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْعِوَضِ فِيمَا بَذَلَهُ فِي الْغَالِبِ ، وَمَا يَبْذُلُ لَهُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ ثَمَنَ الْمِثْلِ فَيَقْبَلُهُ السَّقَّاءُ ، فَإِنْ مَنَعَ فَعَلَيْهِ مُطَالَبَتُهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا إلَّا الِاكْتِفَاءُ فِي مَعْرِفَةِ الْإِبَاحَةِ بِالْمُعَاطَاةِ وَالْقَرِينَةِ وَتَرْكِ الْمُمَاكَسَةِ فِي الْعِوَضِ ، وَهَذَا مَدْلُولٌ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْعِ .
وَكَذَلِكَ دَاخِلُ الْحَمَّامِ مُسْتَبِيحٌ بِالْقَرِينَةِ وَمُتْلِفٌ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بِقَرِينَةِ حَالِ الْحَمَّامِيِّ ، ثُمَّ مَا يَبْذُلُهُ إنْ ارْتَضَى بِهِ الْحَمَّامِيُّ وَاكْتَفَى بِهِ عِوَضًا أَخَذَهُ ، وَإِلَّا طَالَبَهُ بِالْمَزِيدِ إنْ شَاءَ ، فَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا مُبْدَعًا وَلَكِنَّهُ مُنْقَاسٌ ، وَالْقِيَاسُ حُجَّةٌ التَّأْوِيلُ الثَّانِي لِلِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُمْ : الْمُرَادُ بِهِ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إبْرَازِهِ وَإِظْهَارِهِ وَهَذَا هَوَسٌ ; لِأَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ وَهْمٌ وَخَيَالٌ أَوْ تَحْقِيقٌ وَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهِ لِيَعْتَبِرَ بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ لِتُصَحِّحَهُ الْأَدِلَّةُ أَوْ تُزَيِّفَهُ ، أَمَّا الْحُكْمُ بِمَا لَا يَدْرِي مَا هُوَ فَمِنْ أَيٍّ يُعْلَمُ جَوَازُهُ أَبِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ نَظَرِهِ أَوْ بِسَمْعٍ مُتَوَاتِرٍ أَوْ آحَادٍ ؟ وَلَا وَجْهَ لِدَعْوَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى زِنَا شَخْصٍ لَكِنْ عَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا الْبَيْتِ وَقَالَ زَنَى فِيهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، لَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ حَدَّهُ فَيَقُولُ لَهُ : لَمْ يُسْتَحْسَنْ سَفْكُ دَمِ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ إذْ لَمْ تَجْتَمِعْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى زِنًا وَاحِدٍ ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَقُولَ : تَكْذِيبُ الْمُسْلِمِينَ قَبِيحٌ وَتَصْدِيقُهُمْ وَهُمْ عُدُولٌ حَسَنٌ فَنُصَدِّقُهُمْ وَنُقَدَّرُ دَوَرَانَهُ فِي زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى جَمِيعِ الزَّوَايَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدُوا فِي أَرْبَعَةِ بُيُوتٍ فَإِنَّ تَقْدِيرَ التَّزَاحُفِ بَعِيدٌ وَهَذَا هَوَسٌ ; لِأَنَّا نُصَدِّقُهُمْ وَلَا نَرْجُمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَكَمَا لَوْ شَهِدُوا فِي دُورٍ ، وَنَدْرَأُ الرَّجْمَ مِنْ حَيْثُ لَمْ نَعْلَمْ يَقِينًا اجْتِمَاعَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَدَرْءُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ أَحْسَنُ ، كَيْفَ ؟ وَإِنْ كَانَ هَذَا دَلِيلًا فَلَا نُنْكِرُ الْحُكْمَ بِالدَّلِيلِ ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى بَعْضُ الْأَدِلَّةِ اسْتِحْسَانًا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : لِلِاسْتِحْسَانِ ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15071الْكَرْخِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ مِمَّنْ عَجَزَ عَنْ نُصْرَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَقَالَ : لَيْسَ هُوَ عِبَارَةً عَنْ قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَلْ هُوَ بِدَلِيلٍ ، وَهُوَ أَجْنَاسٌ : مِنْهَا الْعُدُولُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ مِنْ الْقُرْآنِ مِثْلِ قَوْلِهِ : مَالِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي ، فَالْقِيَاسُ لُزُومُ التَّصَدُّقِ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى مَالًا ، لَكِنْ اسْتَحْسَنَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ التَّخْصِيصَ بِمَالِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=103خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَالَ الزَّكَاةِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَعْدِلَ بِهَا عَنْ نَظَائِرِهَا بِدَلِيلِ السُّنَّةِ كَالْفَرْقِ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّبْقِ وَالتَّعَمُّدِ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأَحْدَاثِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكَرُ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الِاسْتِنْكَارُ إلَى اللَّفْظِ وَتَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ بِتَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .