الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الأصل الرابع من الأصول الموهومة : الاستصلاح ، وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها ، فنقول : المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام : قسم شهد الشرع لاعتبارها وقسم شهد لبطلانها ، وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها .

              أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة ، [ ص: 174 ] ويرجع حاصلها إلى القياس ، وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع ، وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع فإنه في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة ، ومثاله : حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر ; لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف ، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة القسم الثاني : ما شهد الشرع لبطلانها مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان : إن عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمر بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال : لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته ، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به ، فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال .

              ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم ، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي . القسم الثالث : ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر ، وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات وإلى ما هي في رتبة الحاجات وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات .

              ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها ولنفهم أولا معنى المصلحة ثم أمثلة مراتبها : أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ، ولسنا نعني به ذلك ، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة ، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة .

              وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس . وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات ، فهي أقوى المراتب في المصالح ومثاله : قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته ، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم ، وقضاؤه بإيجاب القصاص أدبه حفظ النفوس ، وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والأنساب ، وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها .

              وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق ، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر . أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة فكقولنا : المماثلة مرعية في استيفاء القصاص ; لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل ، وكقولنا : القليل من الخمر إنما حرم ; لأنه يدعو إلى الكثير ، فيقاس عليه النبيذ فهذا دون الأول ، ولذلك اختلفت فيه الشرائع .

              أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة ; لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد . [ ص: 175 ]

              الرتبة الثانية : ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات ، كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير ، فذلك لا ضرورة إليه لكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح ، وتقييد الأكفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المال ، وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله ، فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها الخلق .

              أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل ، بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر والتظاهر بالأصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها . أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا : لا تزوج الصغيرة إلا من كفؤ وبمهر مثل ، فإنه أيضا مناسب ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح ولهذا اختلف العلماء فيه .

              الرتبة الثالثة : ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات مثاله : سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته من حيث إن العبد نازل القدر والرتبة ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة .

              أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات ; لأن ذلك مناسب للمصلحة ، إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا ، والعبد مستغرق بالخدمة فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل . أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى ولكن قول القائل : سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه ، فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى ، بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه ، والمناسب قد يكون منقوصا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تقييد كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية ، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفء فهو في الرتبة الثالثة ; لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد ; لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال ، ولا يليق ذلك بالمروءة ، ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج .

              وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات ، ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة على الجملة ، فليلحق برتبة التحسينات .

              وإذا عرفت هذه الأقسام فنقول الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات ، فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد ، وإن لم يشهد الشرع بالرأي ، فهو كالاستحسان . فإن اعتضد بأصل فذاك قياس وسيأتي أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد ، وإن لم يشهد له أصل معين ، ومثاله : أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع [ ص: 176 ] المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا ، فيجوز أن يقول قائل : هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع ; لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان ، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر .

              لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين . وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية ، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فبنا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها ; لأنها ليست قطعية بل ظنية ، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا ، وإلا غرقوا بجملتهم ; لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور ، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين ; ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها .

              وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه ; لأن المصلحة ليست كلية ، وليس في معناها قطع اليد للآكلة حفظا للروح فإنه تنقدح الرخصة فيه ; لأنه إضرار به لمصلحته وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما ، وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد . لكن ربما يكون سببا ظاهرا في الهلاك فيمنع منه ; لأنه ليس فيه يقين الخلاص فلا تكون المصلحة قطعية .

              فإن قيل : فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون بها ؟ قلنا : قد قال بها مالك رحمه الله ولا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن ; لأن هذه مصلحة تعارضها أخرى وهي مصلحة المضروب ، فإنه ربما يكون بريئا من الذنب ، وترك الضرب في مذنب أهون من ضرب بريء ، فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح باب إلى تعذيب البريء . فإن قيل : فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته .

              وقد قال صلى الله عليه وسلم : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } فماذا ترون ؟ قلنا : هذه المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد قتله إذ وجب بالزندقة قتله ، وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى ; لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة .

              والزنديق يرى التقية عين الزندقة فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم وذلك لا ينكره أحد فإن قيل : رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرمهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة ، والمصلحة قتله لكف شره فماذا ترون فيه ؟ قلنا : إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا يسفك دمه ، إذ في تخليد الحبس عليه كفاية شره فلا حاجة إلى القتل فلا تكون هذه المصلحة ضرورية .

              فإن قيل : إذا كان الزمان زمان فتنة ولم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبدل الولايات على قرب فليس في إبقائه وحبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته ليزداد في الفساد والإغراء جدا عند الإفلات .

              قلنا هذا الآن رجم بالظن وحكم بالوهم ، فربما لا يفلت ولا تتبدل الولاية والقتل بتوهم المصلحة [ ص: 177 ] لا سبيل إليه ، فإن قيل : وإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس بل يدرك ذلك بغلبة الظن .

              قلنا : لا جرم ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة وعللوا بأن ذلك مظنون ، ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع ، والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه .

              فإن قيل : إن في توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره . قلنا : لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك ، بل هو أولى من الترس فإنه لم يذنب ذنبا ، وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة ، وإن لم توجب القتل ، وكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبيعته وسجيته فإن قيل : كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان ، وهذا يخالف قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } وقوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر ؟ فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك ، فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام ، فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى ؟ قلنا : لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد ، ولا يبعد المنع من ذلك ، ويتأيد بمسألة السفينة وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة ، إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز قتل الترس في الدفع بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد .

              وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد . وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح ، ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل . ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم ، وإن كان التحريم عاما ، لكن تخصصه بغير هذه الصورة فكذلك ههنا التخصيص ممكن .

              وقول القائل هذا سفك دم محرم معصوم ، يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها ، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي ، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من مقصود الشرع والمقطوع به لا يحتاج شهادة أصل فإن قيل : فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا ؟ قلنا : لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود ، أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلاد الإسلام ، فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج ; لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو [ ص: 178 ] ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه .

              وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس ، لكن هذا تصرف في الأموال ، والأموال مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها ، وإنما المحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك . فإن قيل : فبأي طريق بلغ الصحابة حد الشرب إلى ثمانين ، فإن كان حد الشرب مقدرا فكيف زادوا بالمصلحة ؟ ، وإن لم يكن مقدرا وكان تعزيرا فلم افتقروا إلى الشبه بحد القذف ؟ قلنا الصحيح أنه لم يكن مقدرا ، لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب فقدر ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين ، فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا ، والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأئمة ، فكأنه ثبت بالإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة .

              وقيل لهم : اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد أن صدرت الجناية الموجبة للعقوبة . ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع ، فرأوا الشرب مظنة القذف ; لأن من سكر هذى ، ومن هذى افترى ، ورأوا الشرع يقيم مظنة الشيء مقام نفس الشيء كما أقام النوم مقام الحدث ، وأقام الوطء مقام شغل الرحم ، والبلوغ مقام نفس العقل ; لأن هذه الأسباب مظان هذه المعاني ، فليس ما ذكروه مخالفة للنص بالمصلحة أصلا .

              فإن قيل : فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص مثل المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين وتضررت بالعزوبة ، أيفسخ نكاحها للمصلحة أم لا ؟ وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين ، أحدهما سابق واستبهم الأمر ووقع اليأس عن البيان بقيت المرأة محبوسة طول العمر عن الأزواج ومحرمة على زوجها المالك لها في علم الله تعالى ، وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها عشر سنين وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح ، هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو تكتفي بتربص أربع سنين ، وكل ذلك مصلحة ودفع ضرر ، ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا .

              قلنا المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في محل الاجتهاد فقد قال عمر : " تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع الخبر " وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد : تصبر إلى قيام البينة على موته وانقضاء مدة يعلم أنه لا يعيش إليها ; لأنا إن حكمنا بموته بغير بينة فهو بعيد ، إذ لاندراس الأخبار أسباب سوى الموت لا سيما في الخامل الذكر النازل القدر ، وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس على منصوص ، والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من إعسار وجب وعنة ، فإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء ، وذلك في الحضرة لا يؤثر فكذلك في الغيبة .

              فإن قيل سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبهما ، فيعارضه أن رعاية جانبه أيضا ودفع الضرر عنه واجب وفي تسليم زوجته إلى غيره في غيبته ولعله محبوس أو مريض معذور إضرار به فقد تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن فليس تصفو هذه المصلحة عن معارض .

              وكذلك [ ص: 179 ] اختلف قول الشافعي في مسألة الوليين . ولو قيل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد فليس ذلك حكما بمجرد مصلحة لا يعتضد بأصل معين بل تشهد له الأصول المعينة ، أما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي ولم يبلغنا خلاف عن العلماء ، وقد أوجب الله تعالى التربص بالأقراء إلا على اللائي يئسن من المحيض ، وليست هذه من الآيات ، ما من لحظة إلا ويتوقع فيها هجوم الحيض وهي شابة . فمثل هذا القدر النادر لا يسلطنا على تخصيص النص ، فإنا لم نر الشرع يلتفت إلى النوادر في أكثر الأحوال وكان لا يبعد عندي لو اكتفى بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين ، لكن لما أوجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب التعبد .

              فإن قيل : فقد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة ، فليلحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل ؟ قلنا : هذا من الأصول الموهومة ، إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ ; لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع . فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة ، ومن صار إليها فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجا من هذه الأصول ، لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة ، إذ القياس أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة ، وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها بل يجب القطع بكونها حجة .

              وحيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين ، وعند ذلك ترجيح الأقوى ; ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الردة وشرب الخمر وأكل مال الغير وترك الصوم والصلاة ; لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور ، ولا يباح به الزنا ; لأنه مثل محذور الإكراه .

              فإذا منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح ، إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ورجح الكل على الجزء في قطع اليد المتآكلة . وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس ؟ فيه خلاف ; ولذلك يمكن إظهار هذه المصالح في صيغة البرهان ، إذ تقول في مسألة الترس مخالفة مقصود الشرع حرام وفي الكف عن قتال الكفار مخالفة لمقصود الشرع . فإن قيل : لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ، ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة قيل : فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود وفي هذا مخالفة المقصود . قلنا : هذا مقصود وقد اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين ولا بد من الترجيح ، والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي ، وهذا جزئي بالإضافة ، فلا يعارض بالكلي . فإن قيل مسلم أن هذا جزئي ولكن يسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي ، فاحتقار الشرع له يعرف بنص أو قياس على منصوص . قلنا : قد عرفنا ذلك لا بنص واحد معين بل بتفاريق أحكام واقتران [ ص: 180 ] دلالات لم يبق معها شك في أن حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود الكفار عليه بالقتل ، فهذا مما لا يشك فيه ، كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بأن المال حقير في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدم وعرف ذلك بأدلة كثيرة . فإن قيل : فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة وفي الإكراه وفي المخمصة قلنا : لم نفهم ذلك ، إذ أجمعت الأمة على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله ، وإنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في المخمصة ، فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة .

              أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع وإما بظن قريب من القطع يجب اتباع مثله في الشرع ولم يرد نص على خلافه بخلاف الكثرة ; إذ الإجماع في الإكراه وفي المخمصة منع منه . فبهذه الشروط التي ذكرناها يجوز اتباع المصالح ، وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من استصلح فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع ، وتبين به أن الاستصلاح على ما ذكرنا . وهذا تمام الكلام في القطب الثاني من الأصول .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية