الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( 3 ) توزيع الصدقات على الأصناف كلهم أو بعضهم

                          قال القاضي أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد في بحث من تجب له الصدقة من كتابه ( بداية المجتهد ) ما نصه : فأما عددهم فهم الثمانية الذين نص عليهم في قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية . واختلفوا من العدد في مسألتين : ( إحداهما ) هل يجوز أن تصرف جميع الصدقة إلى صنف واحد من هؤلاء الأصناف ؟ أم هم شركاء في الصدقة لا يجوز أن يخص بها صنف [ ص: 440 ] دون صنف ؟ فذهب مالك وأبو حنيفة أنه يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد أو أكثر من صنف واحد إذا رأى ذلك بحسب الحاجة . وقال الشافعي : لا يجوز ذلك بل يقسم على الأصناف الثمانية كما سمى الله تعالى .

                          وسبب اختلافهم معارضة اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم والمعنى يقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة ، إذ كان المقصود بها سد الخلة ، فكان تعديدهم في الآية عند هؤلاء إنما ورد لتمييز الجنس - أعني أهل الصدقات - لا تشريكهم في الصدقة . فالأول أظهر من جهة اللفظ ، وهذا أظهر من جهة المعنى . ومن الحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن الصدائي أن رجلا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعطيه من الصدقة ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله لم يرض أن يحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك اهـ . ثم ذكر المسألة الثانية وهي الاختلاف في المؤلفة قلوبهم وقد تقدمت .

                          وأقول : إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد أطال في مسألة وجوب تعميم ما يوجد من الأصناف في كتابه " الأم " في فصول كثيرة ، وقد بين النووي المذهب فيها والقائلين بالتعميم والمخالفين فيه من السلف وعلماء الأمصار في شرح المهذب . قال : " قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله . إن كان مفرق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل ، ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة الباقين إن وجدوا وإلا فالموجود منهم ، ولا يجوز ترك صنف منهم مع وجوده ، فإن تركه ضمن نصيبه ، وهذا لاختلاف فيه إلا ما سيأتي إن شاء الله تعالى في المؤلفة قلوبهم ، وبمذهبنا في استيعاب الأصناف قال عكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وداود .

                          وقال الحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو عبيد : له صرفها إلى صنف واحد ، قال ابن المنذر وغيره وروي هذا عن حذيفة وابن عباس ، قال أبو حنيفة ، وله صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف قال مالك ويصرفها إلى أمسهم حاجة ، وقال إبراهيم النخعي : إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف وإلا وجب استيعاب الأصناف . قالوا ومعناها ( أي آية الصدقات ) لا يجوز صرفها إلى غير هذه الأصناف وهو فيهم مخيرا اهـ ثم ذكر ما يجب على الإمام أو نائبه من ذلك ولا حاجة إلى نقله .

                          أقول : إن خلاف السلف وأئمة الأمصار في المسألة يدل على أنه لم يسبق فيها سنة عملية مجمع عليها من عهد الرسول ، ولا من خلفائه الراشدين ، فدل هذا على أنهم كانوا يرونها من المصالح [ ص: 441 ] التي يترجح فيها العمل بما يراه أولو الأمر في درجة الاستحقاق وقلة المال وكثرته من الصدقات ، وفي بيت المال ، وأقرب أقوال الأئمة في مراعاة المصلحة قول مالك وإبراهيم النخعي ، وأبعدها عن المصلحة والنص جميعا قول أبي حنيفة : إلا إذا كان المال قليلا جدا إذا أعطاها واحدا انتفع به ، وإذا وزعه على من يوجد من الأصناف أو على أفراد صنف واحد كالفقراء لم يصب أحدا منهم ماله موقعا من كفايته . وأما جواز إعطاء المال الكثير إلى واحد من المستحقين من صنف واحد فلا وجه له ولا شبهة ، والله تعالى قد ذكر أصنافا بصيغة الجمع فلا يمكن أن يقول أبو حنيفة ، ولا من دونه علما وفهما . إن إعطاء واحد من صنف واحد يعد امتثالا لأمر الله وعملا بكتابه .

                          وينبغي لجماعة الشورى من أهل الحل والعقد أن يضعوا في كل عصر وقطر نظاما لتقديم الأهم فالأهم إذا لم تكف الصدقات الجميع ؛ ليمنعوا السلاطين والأمراء من التصرف فيها بأهوائهم ، وذلك أن بعض الأصناف يوجد في بعض الأزمنة والأمكنة دون بعض ، كما أن درجات الحاجية تختلف .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية