الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( 4 ) الزكاة المطلقة والمعينة ومكانتها في الدين ، وحكم دار الإسلام ودار الكفر أو الذبذبة فيها :

                          فرضت الزكاة المطلقة بمكة في أول الإسلام ، وترك أمر مقدارها ودفعها إلى شعور المؤمنين وأريحيتهم ، ثم فرض مقدارها من كل نوع من أنواع الأموال في السنة الثانية من الهجرة على المشهور ، وقيل في الأولى : ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام ، وكانت تصرف للفقراء كما قال تعالى في سورة البقرة : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ( 2 : 271 ) وقد نزلت في السنة الثانية ، وكما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ : " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " وتقدم . ثم نزلت هذه المصارف السبع أو الثمان في سنة تسع ، فتوهم بعض العلماء أن فرض الزكاة كان في هذه السنة .

                          والحكمة فيما ذكر أن تعيين المقادير ، وقيام أولي الأمر بتحصيلها وتوزيعها على من فرضت لهم ، وتعدد أصنافهم ، كل ذلك إنما وجد بوجود حكومة إسلامية تناط بها مصالح الأمة في دينها ودنياها في دار تسمى دار الإسلام ؛ لأن أحكامه تنفذ فيها بسلطانه ، وكانت دار الهجرة إذ كانت مكة دار كفر وحرب لا ينفذ فيها للإسلام حكم ، بل لم يكن لأحد من أهله فيها حرية الجهر بالصلاة إلا بحماية قريب أو جار من المشركين .

                          وإمام المسلمين في دار الإسلام هو الذي تؤدى له صدقات الزكاة ، وهو صاحب الحق بجمعها وصرفها لمستحقيها ، ويجب عليه أن يقاتل الذين يمتنعون عن أدائها إليه كما فعل خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي عنه فيمن منعوا الزكاة من العرب وقال : " والله لأقاتلن [ ص: 442 ] من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاتلتهم على منعها وهو متفق عليه . فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام - بعد الشهادتين والصلاة المفروضة - وأظهر آيات الإيمان ، وتقدم في هذه السورة اشتراط أدائها في قبول إسلام الكفار وعدهم إخوانا للمسلمين في الدين وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبايع المسلمين على أدائها ، وأجمع المسلمون على كفر جاحدها ومستحل تركها ، وقد بينا مكانة الزكاة في الإسلام وأدلتها على صدق الإيمان وضلال تاركيها في هذا الزمان في مواضع كثيرة من هذا التفسير .

                          ولكن أكثر المسلمين لم يبق لهم في هذا العصر حكومات إسلامية تقيم الإسلام بالدعوة إليه والدفاع عنه ، والجهاد الذي يوجبه وجوبا عينيا أو كفائيا ، وتقيم حدوده ، وتأخذ الصدقات المفروضة كما فرضها ، وتضعها في مصارفها التي حددها ، بل سقط أكثرهم تحت سلطة دول الإفرنج ، وبعضهم تحت سلطة حكومات مرتدة أو ملحدة ، ولبعض الخاضعين لدول الإفرنج رؤساء من المسلمين الجغرافيين اتخذهم الإفرنج آلات لإخضاع الشعوب لهم باسم الإسلام حتى فيما يهدمون به الإسلام ، ويتصرفون بنفوذهم وأمرهم في مصالح المسلمين وأموالهم الخاصة بهم فيما له صفة دينية من صدقات الزكاة والأوقات وغيرها ، فأمثال هذه الحكومات لا يجوز دفع شيء من الزكاة لها مهما يكن لقب رئيسها ودينه الرسمي .

                          وأما بقايا الحكومات الإسلامية التي يدين أئمتها ورؤساؤها بالإسلام ، ولا سلطان عليهم للأجانب في بيت مال المسلمين ، فهي التي يجب أداء الزكاة لأئمتها ، وكذا الباطنة كالنقدين إذا طلبوها ، وإن كانوا جائرين في بعض أحكامهم كما قال الفقهاء ، وتبرأ ذمة من أداها إليهم وإن لم يضعوها في مصارفها المنصوصة في الآية الحكيمة بالعدل . والذي نص عليه المحققون كما في شرح المهذب وغيره أن الإمام السلطان إذا كان جائرا لا يضع الصدقات في مصارفها الشرعية ، فالأفضل لمن وجبت عليه أن يؤديها لمستحقيها بنفسه ، إذا لم يطلبها الإمام أو العامل من قبله .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية