المسألة الثالثة : ذكر المفسرون في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22إلا ما قد سلف ) وجوها :
الأول وهو أحسنها : ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال : هذا استثناء على طريق المعنى ؛ لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه .
الثاني : قال صاحب " الكشاف " : هذا كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قوله : " ولا عيب فيهم " يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن ، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته ، كما يقال : حتى يبيض القار ، وحتى يلج الجمل في سم الخياط .
الثالث : أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل ، والمعنى : لكن ما قد سلف فإن الله تجاوز عنه . والرابع : " إلا " ههنا بمعنى بعد ، كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) [ الدخان : 56 ] أي بعد الموتة الأولى .
الخامس : قال بعضهم : معناه إلا ما قد سلف فإنكم مقرون عليه ، قالوا : إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن . وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج ، وقيل : إن هذا خطأ ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على
nindex.php?page=treesubj&link=10981نكاح امرأة أبيه ، وإن كان في الجاهلية . روى
البراء :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012312أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله .
المسألة الرابعة : الضمير في قوله تعالى : " إنه " إلى ماذا يعود ؟ فيه وجهان :
الأول : أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي ، أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم ، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه : مقتي ، وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم ، وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب ، فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك ، لا جرم كان مستقبحا عندهم ، فبين الله تعالى
[ ص: 21 ] أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا .
الثاني : أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي ، فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الإسلام ومقتا عند الله ، وإنما قال : " كان " لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف .
المسألة الخامسة : أنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة :
أولها : أنه فاحشة ، وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش .
وثانيها : المقت : وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار ، حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه ، وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار .
وثالثها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22وساء سبيلا ) قال الليث : " ساء " فعل لازم وفاعله مضمر ، و " سبيلا " منصوب تفسيرا لذلك الفاعل ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=69وحسن أولئك رفيقا ) [ النساء : 69 ] ، واعلم أن مراتب القبح ثلاثة : القبح في العقول ، وفي الشرائع ، وفي العادات ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22إنه كان فاحشة ) إشارة إلى القبح العقلي ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22ومقتا ) إشارة إلى القبح الشرعي ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22وساء سبيلا ) إشارة إلى القبح في العرف والعادة ، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح ، والله أعلم .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ) وُجُوهًا :
الْأَوَّلُ وَهُوَ أَحْسَنُهَا : مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ صَاحِبُ حَلِّ الْمُقِلِّ فَقَالَ : هَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ) قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ .
الثَّانِي : قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : هَذَا كَمَا اسْتَثْنَى " غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ " مِنْ قَوْلِهِ : " وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ " يَعْنِي إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوهَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِهِ وَسَدُّ الطَّرِيقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ ، كَمَا يُقَالُ : حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَالْمَعْنَى : لَكِنَّ مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْهُ . وَالرَّابِعُ : " إِلَّا " هَهُنَا بِمَعْنَى بَعْدَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) [ الدُّخَانِ : 56 ] أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى .
الْخَامِسُ : قَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ مُقِرُّونَ عَلَيْهِ ، قَالُوا : إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِنَّ مُدَّةً ثُمَّ أَمَرَ بِمُفَارَقَتِهِنَّ . وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ ، وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَقَرَّ أَحَدًا عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=10981نِكَاحِ امْرَأَةِ أَبِيهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . رَوَى
الْبَرَاءُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012312أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بُرْدَةَ إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّهُ " إِلَى مَاذَا يَعُودُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا النِّكَاحِ قَبْلَ النَّهْيِ ، أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُنْكَرًا فِي قُلُوبِهِمْ مَمْقُوتًا عِنْدَهُمْ ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِوَلَدِ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَةِ أَبِيهِ : مَقْتِيٌّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْأَبِ تُشْبِهُ الْأُمَّ ، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ مِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُشْبِهُ ذَلِكَ ، لَا جَرَمَ كَانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَهُمْ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى
[ ص: 21 ] أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَبَدًا كَانَ مَمْقُوتًا وَقَبِيحًا .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا النِّكَاحِ بَعْدَ النَّهْيِ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً فِي الْإِسْلَامِ وَمَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : " كَانَ " لِبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَفِي عِلْمِهِ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ :
أَوَّلُهَا : أَنَّهُ فَاحِشَةٌ ، وَإِنَّمَا وَصَفَ هَذَا النِّكَاحَ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ زَوْجَةَ الْأَبِ تُشْبِهُ الْأُمَّ فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهَا مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ .
وَثَانِيهَا : الْمَقْتُ : وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بُغْضٍ مَقْرُونٍ بِاسْتِحْقَارٍ ، حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْرٍ قَبِيحٍ ارْتَكَبَهُ صَاحِبُهُ ، وَهُوَ مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْخِزْيِ وَالْخَسَارِ .
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22وَسَاءَ سَبِيلًا ) قَالَ اللَّيْثُ : " سَاءَ " فِعْلٌ لَازِمٌ وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ ، وَ " سَبِيلًا " مَنْصُوبٌ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْفَاعِلِ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=69وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) [ النِّسَاءِ : 69 ] ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْقُبْحِ ثَلَاثَةٌ : الْقُبْحُ فِي الْعُقُولِ ، وَفِي الشَّرَائِعِ ، وَفِي الْعَادَاتِ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ) إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22وَمَقْتًا ) إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22وَسَاءَ سَبِيلًا ) إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْحِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، وَمَتَى اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْقُبْحِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .