الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ذكر المفسرون في قوله : ( إلا ما قد سلف ) وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول وهو أحسنها : ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال : هذا استثناء على طريق المعنى ؛ لأن قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال صاحب " الكشاف " : هذا كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قوله : " ولا عيب فيهم " يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن ، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته ، كما يقال : حتى يبيض القار ، وحتى يلج الجمل في سم الخياط .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل ، والمعنى : لكن ما قد سلف فإن الله تجاوز عنه . والرابع : " إلا " ههنا بمعنى بعد ، كقوله تعالى : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) [ الدخان : 56 ] أي بعد الموتة الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : قال بعضهم : معناه إلا ما قد سلف فإنكم مقرون عليه ، قالوا : إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن . وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج ، وقيل : إن هذا خطأ ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على نكاح امرأة أبيه ، وإن كان في الجاهلية . روى البراء : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : الضمير في قوله تعالى : " إنه " إلى ماذا يعود ؟ فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي ، أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم ، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه : مقتي ، وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم ، وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب ، فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك ، لا جرم كان مستقبحا عندهم ، فبين الله تعالى [ ص: 21 ] أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي ، فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الإسلام ومقتا عند الله ، وإنما قال : " كان " لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : أنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أنه فاحشة ، وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : المقت : وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار ، حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه ، وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( وساء سبيلا ) قال الليث : " ساء " فعل لازم وفاعله مضمر ، و " سبيلا " منصوب تفسيرا لذلك الفاعل ، كما قال : ( وحسن أولئك رفيقا ) [ النساء : 69 ] ، واعلم أن مراتب القبح ثلاثة : القبح في العقول ، وفي الشرائع ، وفي العادات ، فقوله : ( إنه كان فاحشة ) إشارة إلى القبح العقلي ، وقوله : ( ومقتا ) إشارة إلى القبح الشرعي ، وقوله : ( وساء سبيلا ) إشارة إلى القبح في العرف والعادة ، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية