الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

في الجمع .

وأما الجمع فإنه يتعلق به ثلاث مسائل : إحداها : جوازه . والثانية : في صفة الجمع . والثالثة : في مبيحات الجمع . [ المسألة الأولى ]

[ جواز الجمع ]

أما جوازه فإنهم أجمعوا على أن الجمع بين الظهر ، والعصر في وقت الظهر بعرفة سنة ، وبين المغرب [ ص: 145 ] والعشاء بالمزدلفة أيضا في وقت العشاء سنة أيضا . واختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين ، فأجازه الجمهور على اختلاف بينهم في المواضع التي يجوز فيها من التي لا يجوز ، ومنعه أبو حنيفة ، وأصحابه بإطلاق .

وسبب اختلافهم : أولا : اختلافهم في تأويل الآثار التي رويت في الجمع والاستدلال منها على جواز الجمع ; لأنها كلها أفعال وليست أقوالا ، والأفعال يتطرق إليها الاحتمال كثيرا أكثر من تطرقه إلى اللفظ .

وثانيا : اختلافهم أيضا في تصحيح بعضها ، وثالثا اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهي ثلاثة أسباب كما ترى .

أما الآثار التي اختلفوا في تأويلها ، فمنها حديث أنس الثابت باتفاق أخرجه البخاري ومسلم قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل ، فجمع بينهما ، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ، ثم ركب " ، ومنها حديث ابن عمر أخرجه الشيخان أيضا قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء " .

والحديث الثالث : حديث ابن عباس خرجه مالك ، ومسلم قال : " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر " فذهب القائلون بجواز الجمع في تأويل هذه الأحاديث إلى أنه أخر الظهر إلى وقت العصر المختص بها وجمع بينهما . وذهب الكوفيون إلى أنه إنما أوقع صلاة الظهر في آخر وقتها وصلاة العصر في أول وقتها على ما جاء في حديث إمامة جبريل قالوا : وعلى هذا يصح حمل حديث ابن عباس ; لأنه قد انعقد الإجماع أنه لا يجوز هذا في الحضر لغير عذر : ( أعني : أن تصلى الصلاتان معا في وقت إحداهما ) واحتجوا لتأويلهم أيضا بحديث ابن مسعود قال : " والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة قط إلا في وقتها إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة ، وبين المغرب والعشاء بجمع " قالوا : وأيضا فهذه الآثار محتملة أن تكون على ما تأولناه نحن أو ما تأولتموه أنتم .

وقد صح توقيت الصلاة وتبيانها في الأوقات ، فلا يجوز أن تنتقل عن أصل ثابت بأمر محتمل ، وأما الأثر الذي اختلفوا في تصحيحه ، فما رواه مالك من حديث معاذ بن جبل " أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام تبوك ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، قال : فأخر الصلاة يوما ، ثم خرج ، فصلى الظهر والعصر جميعا ، ثم دخل ، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا " وهذا الحديث لو صح لكان أظهر من تلك الأحاديث في إجازة الجمع ; لأن ظاهره أنه قدم العشاء إلى وقت المغرب ، وإن كان لهم أن يقولوا إنه أخر المغرب إلى آخر وقتها ، وصلى العشاء في أول وقتها ; لأنه ليس في الحديث أمر مقطوع به على ذلك ، بل لفظ الراوي محتمل .

وأما اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهو أن يلحق سائر الصلوات في السفر بصلاة عرفة والمزدلفة ، [ ص: 146 ] ( أعني : أن يجاز الجمع قياسا على تلك ) ، فيقال مثلا : صلاة وجبت في سفر ، فجاز أن تجمع . أصله جمع الناس بعرفة والمزدلفة ، وهو مذهب سالم بن عبد الله : ( أعني جواز هذا القياس ) لكن القياس في العبادات يضعف ، فهذه هي أسباب الخلاف الواقع في جواز الجمع .

التالي السابق


الخدمات العلمية