الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وعلى هذا يخرج الاستئجار على المعاصي أنه لا يصح لأنه استئجار على منفعة غير مقدورة الاستيفاء شرعا كاستئجار الإنسان للعب واللهو ، وكاستئجار المغنية ، والنائحة للغناء ، والنوح بخلاف الاستئجار لكتابة الغناء والنوح أنه جائز ; لأن الممنوع عنه نفس الغناء ، والنوح لا كتابتهما وكذا لو استأجر رجلا ليقتل له رجلا أو ليسجنه أو ليضربه ظلما وكذا كل إجارة وقعت لمظلمة ; لأنه استئجار لفعل المعصية فلا يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء شرعا فإن كان ذلك بحق بأن استأجر إنسانا لقطع عضو جاز .

                                                                                                                                لأنه مقدور الاستيفاء ; لأن محله معلوم فيمكنه أن يضع السكين عليه فيقطعه وإن استأجره لقصاص في النفس لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف وتجوز عند محمد هو يقول استيفاء القصاص بطريق مشروع هو حز الرقبة والرقبة معلومة فكان المعقود عليه مقدور الاستيفاء فأشبه الاستئجار لذبح الشاة وقطع اليد وهما يقولان إن القتل بضرب العنق يقع على سبيل التجافي عن المضروب فربما يصيب العنق وربما يعدل عنه إلى غيره فإن أصاب كان مشروعا وإن عدل كان محظورا ; لأنه يكون مثلة وإنها غير مشروعة بخلاف الاستئجار على تشقيق الحطب ; لأنه وإن كان ذلك يقع على سبيل التجافي فكله مباح وههنا بخلافه فلم يكن هذا النوع من المنفعة مقدور الاستيفاء وليس كذلك القطع والذبح لأن القطع يقع بوضع السكين على موضع معلوم من اليد وهو المفصل وإمراره عليه وكذلك الذبح فهو الفرق ولو استأجر ذمي من مسلم بيعة ليصلي فيها لم يجز ; لأنه استئجار لفعل المعصية وكذا لو استأجر ذمي من ذمي لما قلنا ولو استأجر الذمي دارا من مسلم وأراد أن يصلي فيها من غير جماعة أو يتخذها مصلى للعامة فقد ذكرنا حكمه فيما تقدم ولو استأجر ذمي مسلما ليخدمه ذكر في الأصل أنه يجوز وأكره للمسلم خدمة الذمي أما الكراهة فلأن الاستخدام استذلال فكأن إجارة المسلم نفسه منه إذلالا لنفسه وليس للمسلم أن يذل نفسه خصوصا بخدمة الكافر .

                                                                                                                                وأما الجواز فلأنه عقد معاوضة فيجوز كالبيع وقال أبو حنيفة : أكره أن يستأجر الرجل امرأة حرة يستخدمها ويخلو بها وكذلك الأمة وهو قول أبي يوسف ومحمد أما الخلوة فلأن الخلوة بالمرأة الأجنبية معصية .

                                                                                                                                وأما الاستخدام فلأنه لا يؤمن معه الاطلاع عليها والوقوع في المعصية ويجوز الاستئجار لنقل الميتات والجيف والنجاسات ; لأن فيه رفع أذيتها عن الناس فلو لم تجز لتضرر بها الناس وقال ابن رستم عن محمد أنه قال : لا بأس بأجرة الكناس [ ص: 190 ] أرأيت لو استأجره ليخرج له حمارا ميتا ، أما يجوز ذلك ، ويجوز الاستئجار على نقل الميت الكافر إلى المقبرة ; لأنه جيفة فيدفع أذيتها عن الناس كسائر الأنجاس .

                                                                                                                                وأما الاستئجار على نقله من بلد إلى بلد فقد قال محمد : ابتلينا بمسألة ميت مات من المشركين فاستأجروا له من يحمله إلى موضع فيدفنه في غير الموضع الذي مات فيه أراد بذلك : إذا استأجروا له من ينقله من بلد إلى بلد فقال أبو يوسف : لا أجر له وقلت أنا : إن كان الحمال الذي حمله يعلم أنه جيفة ; فلا أجر له ، وإن لم يعلم فله الأجر ، وجه قول محمد إن الأجير إذا علم أنه جيفة فقد نقل ما لا يجوز له نقله ; فلا يستحق الأجر ، وإذا لم يعلم فقد غروه بالتسمية ، والغرور يوجب الضمان ولأبي يوسف إن الأصل أن لا يجوز نقل الجيفة وإنما رخص في نقلها للضرورة وهي ضرورة رفع أذيتها ، ولا ضرورة في النقل من بلد إلى بلد فبقي على أصل الحرمة كنقل الميتة من بلد إلى بلد ، ومن استأجر حمالا يحمل له الخمر فله الأجر في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ، ومحمد لا أجر له كذا ذكر في الأصل ، وذكر في الجامع الصغير أنه يطيب له الأجر في قول أبي حنيفة ، وعندهما يكره لهما أن هذه إجارة على المعصية ; لأن حمل الخمر معصية لكونه إعانة على المعصية ، وقد قال الله عز وجل { : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ولهذا لعن الله تعالى عشرة : منهم حاملها والمحمول إليه ولأبي حنيفة إن نفس الحمل ليس بمعصية بدليل أن حملها للإراقة والتخليل مباح وكذا ليس بسبب للمعصية وهو الشرب ; لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار وليس الحمل من ضرورات الشرب فكانت سببا محضا فلا حكم له كعصر العنب وقطفه والحديث محمول على الحمل بنية الشرب وبه نقول : إن ذلك معصية ، ويكره أكل أجرته ، ولا تجوز إجارة الإماء للزنا ; لأنها إجارة على المعصية وقيل : فيه نزل قوله تعالى { - : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ، } .

                                                                                                                                وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه { نهى عن مهر البغي } وهو أجر الزانية على الزنا وتجوز الإجارة للحجامة وأخذ الأجرة عليها ; لأن الحجامة أمر مباح وما ورد من النهي عن كسب الحجام في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من السحت عسب التيس وكسب الحجام } ; فهو محمول على الكراهة لدناءة الفعل والدليل عليه ما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك أتاه رجل من الأنصار فقال : إن لي حجاما وناضحا فأعلف ناضحي من كسبه قال صلى الله عليه وسلم : نعم } .

                                                                                                                                وروي { أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام دينارا } ولا يجوز استئجار الرجل أباه ليخدمه ; لأنه مأمور بتعظيم أبيه وفي الاستخدام استخفاف به فكان حراما فكان هذا استئجارا على المعصية وسواء كان الأب حرا أو عبدا استأجره ابنه من مولاه ليخدمه لأنه لا يجوز استئجار الأب حرا كان أو عبدا وسواء كان الأب مسلما أو ذميا ; لأن تعظيم الأب واجب وإن اختلف الدين قال الله تعالى { : وصاحبهما في الدنيا معروفا } وهذا في الأبوين الكافرين ; لأنه معطوف على قوله : - عز وجل { - وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } ، وإن شئت أفردت لجنس هذه المسائل شرطا وخرجتها عليه فقلت : ومنها أن تكون المنفعة مباحة الاستيفاء فإن كانت محظورة الاستيفاء لم تجز الإجارة لكن في هذا شبهة التداخل في الشروط والصناعة تمنع من ذلك .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية