الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( من يعمل سوءا يجز به ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات ، وليس لقائل أن يقول : هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا : الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن العام بعد التخصيص حجة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية ، فههنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب أصحابنا عنه بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [البقرة : 81] والذي نزيده في هذه الآية وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم ، والأحزان والآلام والأسقام ؟ والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر ، أما القرآن فهو قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا ) [المائدة : 38] سمى ذلك القطع بالجزاء ، وأما الخبر فما روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- : كيف الصلاح بعد هذه الآية ؟ فقال : غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ، أليس يصيبك الأذى ؟ فهو ما تجزون .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلا قرأ هذه الآية فقال : أنجزى بكل ما نعمل ؟ ! لقد هلكنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه ، فقال : يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه . وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- : لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا ، فقال عليه الصلاة والسلام : "أبشروا فإنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه " .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في الجواب : هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم القيامة ، لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته ؟ ويدل عليه القرآن والخبر والمعقول .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القرآن فقوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 43 ] وأما الخبر : فما روى الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة ، وقالوا : يا رسول الله ، وأينا لم يعمل سوءا فكيف الجزاء ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة ، فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة ، وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره" .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المعقول : فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة ، والعدل يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل ، فيبقى حينئذ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث في الجواب : أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار ، والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ) [النساء : 124] . فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات ، فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية ، وقولهم : خرج عن كونه مؤمنا فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن ، مثل قوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) إلى قوله : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) [الحجرات : 9] سمى الباغي حال كونه باغيا مؤمنا ، وقال : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) [البقرة : 187] سمى صاحب القتل العمد العدوان مؤمنا ، وقال : ( ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله ) [التحريم : 8] . سماه مؤمنا حال ما أمره بالتوبة ، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، وإذا كان مؤمنا كان قوله تعالى : ( ومن يعمل من الصالحات ) حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة ، فوجب أن يكون قوله : ( من يعمل سوءا يجز به ) مخصوصا بأهل الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع في الجواب : هب أن النص يعم المؤمن والكافر ، ولكن قوله : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [النساء : 48] أخص منه ، والخاص مقدم على العام ؛ ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد ؛ لأن الوفاء بالوعد كرم ، وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : دلت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع ؛ لأن قوله : ( من يعمل سوءا ) يتناول جميع المحرمات ، فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ، ثم قوله : ( يجز به ) يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : إنه لا بد وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة ، وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون تنعمهم في الدنيا أكثر ولذاتهم ههنا أكمل ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وإذا كان كذلك امتنع أن يقال : إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا ، فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : دلت الآية على أن العبد فاعل ، ودلت أيضا على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء ، وإذا دلت الآية على مجموع هذين الأمرين ، فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد ، وذلك من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما كان عملا للعبد امتنع كونه عملا لله تعالى ؛ لاستحالة حصول مقدور واحد [ ص: 44 ] بقادرين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء البتة وذلك باطل ؛ لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله ، واعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية