الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ووجد بخط أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي الحافظ : " أجزت رواية ذلك لجميع من أحب أن يروي ذلك عني ".

أما إذا قال: ( أجزت لفلان كذا وكذا إن شاء روايته عني، أو لك إن شئت، أو أحببت، أو أردت ) فالأظهر الأقوى أن ذلك جائز؛ إذ قد انتفت فيه الجهالة وحقيقة التعليق، ولم يبق سوى صيغته، والعلم عند الله تعالى.

والنوع الخامس من أنواع الإجازة : الإجازة للمعدوم . ولنذكر معه الإجازة للطفل الصغير .

هذا نوع خاض فيه قوم من المتأخرين، واختلفوا في جوازه، ومثاله : أن يقول: (أجزت لمن يولد لفلان ) فإن عطف المعدوم في ذلك على الموجود بأن قال : (أجزت لفلان ولمن يولد له، أو أجزت لك ولولدك، وعقبك ما تناسلوا) كان ذلك أقرب إلى الجواز من الأول . ولمثل ذلك أجاز أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - في الوقف القسم الثاني دون الأول .

وقد أجاز أصحاب مالك، وأبي حنيفة - رضي الله عنهما - أو من قال ذلك منهم في الوقف القسمين كليهما .

وفعل هذا الثاني في الإجازة من المحدثين المتقدمين أبو بكر ابن أبي داود السجستاني، فإنا روينا عنه أنه سئل الإجازة، فقال : "قد أجزت لك، ولأولادك، ولحبل الحبلة" يعني الذين لم يولدوا بعد .

وأما الإجازة للمعدوم ابتداء، من غير عطف على موجود : فقد أجازها الخطيب أبو بكر الحافظ ، وذكر أنه سمع أبا يعلى بن الفراء الحنبلي، وأبا الفضل بن عمروس المالكي يجيزان ذلك .

وحكى جواز ذلك أيضا أبو نصر بن الصباغ الفقيه ، فقال : ذهب قوم إلى أنه يجوز أن يجيز لمن لم يخلق ، قال : "وهذا إنما ذهب إليه من يعتقد أن الإجازة إذن في الرواية لا محادثة " ثم بين بطلان هذه الإجازة، وهو الذي استقر عليه رأي شيخه القاضي أبي الطيب الطبري الإمام .

وذلك هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره; لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز، على ما قدمناه في بيان صحة أصل الإجازة، فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا تصح الإجازة للمعدوم . ولو قدرنا أن الإجازة إذن فلا يصح أيضا ذلك للمعدوم، كما لا يصح الإذن في باب الوكالة للمعدوم؛ لوقوعه في حالة لا يصح فيها المأذون فيه من المأذون له .

وهذا أيضا يوجب بطلان الإجازة للطفل الصغير الذي لا يصح سماعه .

قال الخطيب : سألت القاضي أبا الطيب الطبري عن الإجازة للطفل الصغير، هل يعتبر في صحتها سنه أو تمييزه، كما يعتبر ذلك في صحة سماعه؟ فقال : لا يعتبر ذلك ، قال : فقلت له : إن بعض أصحابنا قال : لا تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه ، فقال : قد يصح أن يجيز للغائب عنه، ولا يصح السماع له .

واحتج الخطيب لصحتها للطفل بأن الإجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه، والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل .

قال : وعلى هذا رأينا كافة شيوخنا يجيزون للأطفال الغيب عنهم، من غير أن يسألوا عن مبلغ أسنانهم، وحال تمييزهم ، ولم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولودا في الحال .

قلت : كأنهم رأوا الطفل أهلا لتحمل هذا النوع من أنواع تحمل الحديث؛ ليؤدي به بعد حصول أهليته؛ حرصا على توسيع السبيل إلى بقاء الإسناد الذي اختصت به هذه الأمة، وتقريبه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

النوع السادس من أنواع الإجازة : إجازة ما لم يسمعه المجيز، ولم يتحمله أصلا بعد؛ ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك .

أخبرني من أخبر عن القاضي عياض بن موسى من فضلاء وقته بالمغرب ، قال : "هذا لم أر من تكلم عليه من المشايخ، ورأيت بعض المتأخرين والعصريين يصنعونه" ثم حكى عن أبي الوليد يونس بن مغيث قاضي قرطبة أنه سئل الإجازة لجميع ما رواه إلى تاريخها، وما يرويه بعد، فامتنع من ذلك، فغضب السائل ، فقال له بعض أصحابه : يا هذا، يعطيك ما لم يأخذه؟ هذا محال! قال عياض : "وهذا هو الصحيح ".

قلت : ينبغي أن يبنى هذا على أن الإجازة في حكم الإخبار بالمجاز جملة، أو هي إذن، فإن جعلت في حكم الإخبار لم تصح هذه الإجازة؛ إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه؟! وإن جعلت إذنا انبنى هذا على الخلاف في تصحيح الإذن في باب الوكالة فيما لم يملكه الآذن الموكل بعد، مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه . وقد أجاز ذلك بعض أصحاب الشافعي .

والصحيح بطلان هذه الإجازة ، وعلى هذا يتعين على من يريد أن يروي بالإجازة عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته مثلا أن يبحث حتى يعلم أن ذاك الذي يريد روايته عنه مما سمعه قبل تاريخ الإجازة .

وأما إذا قال : "أجزت لك ما صح ويصح عندك من مسموعاتي" فهذا ليس من هذا القبيل ، وقد فعله الدارقطني، وغيره ، وجائز أن يروي بذلك عنه ما صح عنده بعد الإجازة أنه سمعه قبل الإجازة ، ويجوز ذلك، وإن اقتصر على قوله: " ما صح عندك " ولم يقل: " وما يصح " لأن المراد "أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك " فالمعتبر إذا فيه صحة ذلك عنده حالة الرواية. والله أعلم .

النوع السابع من أنواع الإجازة : إجازة المجاز .

مثل أن يقول الشيخ: ( أجزت لك مجازاتي ، أو أجزت لك رواية ما أجيز لي روايته ) فمنع من ذلك بعض من لا يعتد به من المتأخرين .

والصحيح، والذي عليه العمل، أن ذلك جائز، ولا يشبه ذلك ما امتنع من توكيل الوكيل بغير إذن الموكل ، ووجدت عن أبي عمرو السفاقسي الحافظ المغربي قال : سمعت أبا نعيم الحافظ - يعني الأصبهاني - يقول : "الإجازة على الإجازة قوية جائزة".

وحكى الخطيب الحافظ تجويز ذلك عن الحافظ الإمام أبي الحسن الدارقطني، والحافظ أبي العباس المعروف بابن عقدة الكوفي، وغيرهما ، وقد كان الفقيه الزاهد نصر بن إبراهيم المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة، حتى ربما والى في روايته بين إجازات ثلاث .

وينبغي لمن يروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأمل كيفية إجازة شيخ شيخه، ومقتضاها، حتى لا يروي بها ما لم يندرج تحتها ، فإذا كان مثلا صورة إجازة شيخ شيخه ( أجزت له ما صح عنده من سماعاتي) فرأى شيئا من مسموعات شيخ شيخه، فليس له أن يروي ذلك عن شيخه عنه، حتى يستبين أنه مما كان قد صح عند شيخه كونه من سماعات شيخه الذي تلك إجازته، ولا يكتفي بمجرد صحة ذلك عنده الآن، عملا بلفظه وتقييده ، ومن لا يتفطن لهذا وأمثاله يكثر عثاره. والله أعلم .

هذه أنواع الإجازة التي تمس الحاجة إلى بيانها، ويتركب منها أنواع أخر سيتعرف المتأمل حكمها مما أمليناه إن شاء الله تعالى.

ثم إنا ننبه على أمور :

أحدها : روينا عن أبي الحسين أحمد بن فارس الأديب المصنف رحمه الله قال : "معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث، يقال منه : استجزت فلانا، فأجازني، إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيتك ، كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه، فيجيزه إياه" .

قلت : فللمجيز على هذا أن يقول: " أجزت فلانا مسموعاتي أو مروياتي " فيعديه بغير حرف جر من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية، أو نحو ذلك ، ويحتاج إلى ذلك من يجعل الإجازة بمعنى التسويغ، والإذن، والإباحة، وذلك هو المعروف، فيقول: ( أجزت لفلان رواية مسموعاتي) مثلا، ومن يقول منهم: ( أجزت له مسموعاتي) فعلى سبيل الحذف الذي لا يخفى نظيره. والله أعلم .

الثاني : إنما تستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالما بما يجيز، والمجاز له من أهل العلم; لأنها توسع وترخيص، يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها ، وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطا فيها . وحكاه أبو العباس الوليد بن بكر المالكي، عن مالك رضي الله عنه.

وقال الحافظ أبو عمر: "الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة، وفي شيء معين لا يشكل إسناده" والله أعلم .

الثالث : ينبغي للمجيز إذا كتب إجازته أن يتلفظ بها، فإن اقتصر على الكتابة كان ذلك إجازة جائزة، إذا اقترن بقصد الإجازة ، غير أنها أنقص مرتبة من الإجازة الملفوظ بها ، وغير مستبعد تصحيح ذلك بمجرد هذه الكتابة في باب الرواية، الذي جعلت فيه القراءة على الشيخ مع أنه لم يلفظ بما قرئ عليه إخبارا منه بما قرئ عليه، على ما تقدم بيانه. والله أعلم .

القسم الرابع: من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه : المناولة

وهي على نوعين :

أحدهما : المناولة المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق . ولها صور :

منها : أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه، أو فرعا مقابلا به، ويقول: ( هذا سماعي، أو روايتي عن فلان، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني) ثم يملكه إياه . أو يقول: ( خذه، وانسخه، وقابل به، ثم رده إلي ) أو نحو هذا.

ومنها : أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب، أو جزء من حديثه، فيعرضه عليه، فيتأمله الشيخ وهو عارف متيقظ، ثم يعيده إليه، ويقول له: ( وقفت على ما فيه، وهو حديثي عن فلان، أو روايتي عن شيوخي فيه، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني) وهذا قد سماه غير واحد من أئمة الحديث ( عرضا) وقد سبقت حكايتنا في القراءة على الشيخ أنها تسمى عرضا ، فلنسم ذلك ( عرض القراءة) وهذا ( عرض المناولة) والله أعلم .

وهذه المناولة المقترنة بالإجازة : حالة محل السماع عند مالك ، وجماعة من أئمة أصحاب الحديث . وحكى الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري - في عرض المناولة المذكور - عن كثير من المتقدمين : أنه سماع .

وهذا مطرد في سائر ما يماثله من صور المناولة المقرونة بالإجازة : فممن حكى الحاكم ذلك عنهم: ابن شهاب الزهري، وربيعة الرأي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، ومالك بن أنس الإمام، في آخرين من المدنيين، ومجاهد ، وأبو الزبير ، وابن عيينة في جماعة من المكيين ، وعلقمة، وإبراهيم النخعيان، والشعبي في جماعة من الكوفيين، وقتادة، وأبو العالية، وأبو المتوكل الناجي في طائفة من البصريين، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب في طائفة من المصريين، وآخرون من الشاميين، والخراسانيين.

ورأى الحاكم طائفة من مشايخه على ذلك، وفي كلامه بعض التخليط من حيث كونه خلط بعض ما ورد في ( عرض القراءة ) بما ورد في ( عرض المناولة ) وساق الجميع مساقا واحدا .

والصحيح : أن ذلك غير حال محل السماع، وأنه منحط عن درجة التحديث لفظا، والإخبار قراءة .

وقد قال الحاكم في هذا العرض : "أما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا، وبه قال الشافعي، والأوزاعي، والبويطي، والمزني، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وابن المبارك، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه" . قال : "وعليه عهدنا أئمتنا، وإليه ذهبوا، وإليه نذهب" والله أعلم .

[ ص: 649 ] [ ص: 650 ] [ ص: 651 ] [ ص: 652 ] [ ص: 653 ] [ ص: 654 ] [ ص: 655 ] [ ص: 656 ]

التالي السابق


[ ص: 649 ] [ ص: 650 ] [ ص: 651 ] [ ص: 652 ] [ ص: 653 ] [ ص: 654 ] [ ص: 655 ] [ ص: 656 ] 110 - قوله: (قال الحاكم في هذا العرض - أي عرض المناولة: "أما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا، وبه قال الشافعي، والأوزاعي، والبويطي، والمزني، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري ...) إلى آخر كلامه.

اعترض على المصنف بذكر أبي حنيفة مع المذكورين؛ فإن من عدا أبا حنيفة يرى صحة المناولة وأنها دون السماع، وأما أبو حنيفة فلا يرى صحتها أصلا كما ذكره صاحب (القنية) فقال: "إذا أعطاه المحدث الكتاب وأجاز له ما فيه ولم يسمع ذلك ولم يعرفه فعند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز روايته، وعند أبي يوسف يجوز" انتهى.

قلت: لم يكتف صاحب (القنية) في نقله عن أبي حنيفة لعدم الصحة بكونه لم يسمعه فقط، بل زاد على ذلك بقوله: "ولم يعرفه" فإن كان الضمير في "يعرفه" عائدا على المجاز - وهو الظاهر لتتفق الضمائر - فمقتضاه أنه إذا عرف المجاز ما أجيز له أنه يصح، بخلاف ما ذكر المعترض أنه لا يرى صحتها أصلا. وإن كان الضمير يعود على الشيخ المجيز فقد ذكر المصنف بعد هذا أن الشيخ إذا لم ينظر ويتحقق روايته لجميعه لا يجوز ولا يصح، ثم استثنى ما إذا كان الطالب موثوقا بخبره فإنه يجوز الاعتماد عليه. انتهى.

[ ص: 657 ] وهذه الصورة لا يوافق على صحتها أبو حنيفة، بل لا بد أن يكون الشيخ حافظا لحديثه، أو ممسكا لأصله، وهو الذي صححه إمام الحرمين كما تقدم، بل أطلق الآمدي النقل عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الإجازة غير صحيحة. والله تعالى أعلم.

ويجوز أن يكون أبو حنيفة وأبو يوسف إنما يمنعان صحة الإجازة الخالية عن المناولة، فقد حكى القاضي عياض في كتاب (الإلماع) عن كافة أهل النقل والآراء والتحقيق من أهل النظر القول بصحة المناولة المقرونة بالإجازة.




الخدمات العلمية