الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5076 18 - حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهري قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري، أن ابن عباس أخبره أن خالد بن الوليد الذي يقال له سيف الله أخبره أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة وهي خالته وخالة [ ص: 39 ] ابن عباس، فوجد عندها ضبا محنوذا قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قلما يقدم يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قدمتن له، هو الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده عن الضب، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاحتززته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلي.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "وكان قلما يقدم يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له" وعبد الله هو ابن المبارك المروزي، ويونس هو ابن يزيد، والزهري هو محمد بن مسلم، وأبو أمامة أسعد بن سهل بن حنيف بضم الحاء المهملة وفتح النون.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري في مسند خالد بن الوليد وفي الأطعمة هنا، وفي الذبائح عن القعنبي، وأخرجه مسلم في مسند ابن عباس في الذبائح عن يحيى بن يحيى وغيره، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه مثل البخاري في مسند خالد، فأبو داود في الأطعمة عن القعنبي، والنسائي في الصيد، عن أبي داود والحراني وغيره، وفي الوليمة، عن هارون بن عبد الله، وابن ماجه في الصيد، عن محمد بن مصفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وهي خالته" أي: ميمونة خالة خالد بن الوليد خالة ابن عباس أيضا، وقد ذكرنا عن قريب في باب الخبز المرقق أن ميمونة ولبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، ولبابة الكبرى أم ابن عباس وأم حفيدة - أخوات، وهن بنات الحارث بن حزن، وذكر هنا حفيدة وهي أم حفيدة، وهو المحفوظ عند أهل النسب واسمها هزيلة، وقد ذكرناه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "محنوذا" أي: مشويا قال الله عز وجل: (فجاء بعجل حنيذ) أي: مشوي، يقال: حنذت الشاة أحنذها حنذا، أي: شويتها وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وكان قلما يقدم " من التقديم، وقل فعل ماض وما يقدم فاعله وما مصدرية، أي: قبل تقديم يده لطعام حتى يحدث على صيغة المجهول، أي: حتى يخبر به ما هو، ويسمى مجهول أيضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "له" أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: " فأهوى" أي: مد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده إلى الضب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقالت امرأة من النسوة الحضور" ووقع في رواية لمسلم: فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل، قالت له ميمونة: إنه لحم ضب فكف يده، ووصف النسوة بالحضور الذي هو جمع حاضر مع أن المطابقة شرط بين الصفة والموصوف في التذكير والتأنيث وغيرهما; لأنه لوحظ فيهما صورة الجمع، أو يقال: إن الحضور مصدر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أحرام الضب" نحو أقائم زيد، فيجوز فيه الأمران.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فأجدني" أي: فأجد نفسي.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أعافه" أي: أكرهه من عاف الرجل الطعام والشراب يعافه عيافا، أي: كرهه فهو عائف.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -" الواو فيه للحال، واحتج بهذا الحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، فقالوا: يجوز أكل الضب، وهو مذهب الظاهرية أيضا، وقال ابن حزم : وصحت إباحته عن عمر بن الخطاب وغيره.

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب الهداية: ويكره أكل الضب; لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عائشة - رضي الله عنها - حين سألته عن أكله، ولكن الطحاوي في شرح معاني الآثار رجح إباحة أكل الضب، وقال: لا بأس بأكل الضب، وهو القول عندنا، وقال: وقد كره قوم أكل الضب، منهم أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد.

                                                                                                                                                                                  قلت: أراد بالقوم الحارث بن مالك ويزيد بن أبي زياد ووكيعا، فإنهم قالوا: أكل الضب مكروه. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله، ثم الأصح عند أصحابنا أن الكراهة كراهة تنزيه لا كراهة تحريم؛ لتظاهر الأحاديث الصحاح بأنه ليس بحرام، وقال بعض أصحابنا: أحاديث دلت على الإباحة وأحاديث دلت على الحرمة والتاريخ مجهول، فيجعل المحرم مؤخرا عن المبيح، فيكون ناسخا له تعليلا للنسخ، ومن جملة الأحاديث الدالة على الحرمة حديث عائشة الذي ذكره صاحب الهداية، ولكن فيه مقال، ولما ذكر صاحب تخريج أحاديث الهداية حديث عائشة قال: هذا حديث غريب.

                                                                                                                                                                                  قلت: رواه محمد بن الحسن، عن الأسود، عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدي له ضب، فلم يأكله فسألته عن أكله فنهاني، فجاء سائل فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال: تعطينه ما لا تأكلينه؟! فالنهي يدل على [ ص: 40 ] التحريم، ومنها ما رواه أبو داود في الأطعمة عن إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي راشد الحبراني، عن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحم الضب .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: قال البيهقي : تفرد به ابن عياش وليس بحجة. وقال المنذري : إسماعيل بن عياش وضمضم فيهما مقال، وقال الخطابي : ليس إسناده بذلك.

                                                                                                                                                                                  قلت: ضمضم حمصي وابن عياش إذا روى عن الشاميين كان حديثه صحيحا، كذا قاله البخاري ويحيى بن معين وغيرهما، والعجب من البيهقي أنه قال في باب ترك الوضوء من الدم مثل ما قال البخاري ويحيى، وهنا يقول: ليس بحجة، ولما أخرج أبو داود هذا الحديث سكت عنه، وهو حسن عنده على ما عرف، وقد صحح الترمذي لابن عياش عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة، وشرحبيل شامي.

                                                                                                                                                                                  وروى الطحاوي في معاني الآثار مسندا إلى عبد الرحمن بن حسنة قال: نزلنا أرضا كثيرة الضباب، فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها، وإن القدور لتغلي بها إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ فقلنا: ضباب أصبناها، فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض، إني أخشى أن تكون هذه فأكفئوها.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية