الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 194 ] ذكر فتح ألب أرسلان مدينة آني وغيرها من بلاد النصرانية .

ثم سار السلطان من الري أول ربيع الأول ، وسار إلى أذربيجان ، فوصل إلى مرند عازما على قتال الروم وغزوهم ، فلما كان بمرند أتاه أمير من أمراء التركمان ، كان يكثر غزو الروم ، اسمه طغدكين ، ومعه من عشيرته خلق كثير ، قد ألفوا الجهاد ، وعرفوا تلك البلاد ، وحثه على قصد بلادهم ، وضمن له سلوك الطريق المستقيم إليها ، فسار معه ، فسلك بالعساكر في مضايق تلك الأرض ومخارمها ، فوصل إلى نقجوان ، فأمر بعمل السفن لعبور نهر أرس ، فقيل له إن سكان خوي ، وسلماس ، من أذربيجان ، لم يقوموا بواجب الطاعة ، وإنهم قد امتنعوا ببلادهم ، فسير إليهم عميد خراسان ، ودعاهم إلى الطاعة ، وتهددهم إن امتنعوا ، فأطاعوا ، وصاروا من جملة حزبه وجنده ، واجتمع عليه هناك من الملوك والعساكر ما لا يحصى .

فلما فرغ من جمع العساكر والسفن سار إلى بلاد الكرج ، وجعل مكانه في عسكره ولده ملكشاه ، ونظام الملك وزيره ، فسار ملكشاه ونظام الملك إلى قلعة فيها جمع كثير من الروم ، فنزل أهلها منها ، وتخطفوا من العسكر ، وقتلوا منهم فئة كثيرة ، فنزل نظام الملك وملكشاه ، وقاتلوا من بالقلعة ، وزحفوا إليهم ، فقتل أمير القلعة ، وملكها المسلمون ، وساروا منها إلى قلعة سرماري ، وهي قلعة فيها المياه الجارية والبساتين ، فقاتلوها وملكوها ، وأنزلوا منها أهلها ، وكان بالقرب منها قلعة أخرى ، ففتحها ملكشاه ، وأراد تخريبها ، فنهاه نظام الملك عن ذلك ، وقال : هي ثغر للمسلمين ، وشحنها بالرجال والذخائر والأموال والسلاح ، وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان .

[ ص: 195 ] وسار ملكشاه ونظام الملك إلى مدينة مريم نشين ، وفيها كثير من الرهبان والقسيسين وملوك النصارى وعامتهم يتقربون إلى أهل هذه البلدة ، وهي مدينة حصينة ، سورها من الأحجار الكبار الصلبة ، المشدودة بالرصاص والحديد ، وعندها نهر كبير ، فأعد نظام الملك لقتالها ما يحتاج إليه من السفن وغيرها ، وقاتلها ، وواصل قتالها ليلا ونهارا ، وجعل العساكر عليها يقاتلون بالنوبة ، فضجر الكفار ، وأخذهم الإعياء والكلال ، فوصل المسلمون إلى سورها ، ونصبوا عليه السلاليم ، وصعدوا إلى أعلاه ، لأن المعاول كلت عن نقبه لقوة حجره .

فلما رأى أهلها المسلمين على السور فت ذلك في أعضادهم ، وسقط في أيديهم ، ودخل ملكشاه البلد ، ونظام الملك ، وأحرقوا البيع ، وخربوها ، وقتلوا كثيرا من أهلها ، وأسلم كثير فنجوا من القتل .

واستدعى ألب أرسلان إليه ابنه ، ونظام الملك ، وفرح بما يسره الله من الفتح على يد ولده ، وفتح ملكشاه في طريقه عدة من القلاع والحصون ، وأسر من النصارى ما لا يحصون كثرة ، وساروا إلى سبيذ شهر ، فجرى بين أهلها وبين المسلمين حروب شديدة استشهد فيها كثير من المسلمين ، ثم إن الله تعالى يسر فتحها فملكها ألب أرسلان .

وسار منها إلى مدينة أعآل لآل ، وهي حصينة ، عالية الأسوار ، شاهقة البنيان ، وهي من جهة الشرق والغرب على جبل عال ، وعلى الجبل عدة من الحصون ، ومن الجانبين الآخرين نهر كبير لا يخاض ، فلما رآها المسلمون علموا عجزهم عن فتحها والاستيلاء عليها ، وكان ملكها من الكرج ، وهكذا ما تقدم من البلاد التي ذكرنا فتحها ، وعقد السلطان جسرا على النهر عريضا ، واشتد القتال وعظم الخطب ، فخرج من المدينة رجلان يستغيثان ، ويطلبان الأمان ، والتمسا من السلطان أن يرسل [ ص: 196 ] معهما طائفة من العسكر ، فسير جمعا صالحا ، فلما جاوزوا الفصيل أحاط بهم الكرج من أهل المدينة وقاتلوهم فأكثروا القتل فيهم ، ولم يتمكن المسلمون من الهزيمة لضيق المسلك .

وخرج الكرج من البلد وقصدوا العسكر ، واشتد القتال ، وكان السلطان ، ذلك الوقت ، يصلي ، فأتاه الصريخ ، فلم يبرح حتى فرغ من صلاته ، وركب ، وتقدم إلى الكفار ، فقاتلهم ، وكبر المسلمون عليهم ، فولوا منهزمين ، فدخلوا البلد والمسلمون معهم ، ودخلها السلطان وملكها ، واعتصم جماعة من أهلها في برج من أبراج المدينة ، فقاتلهم المسلمون ، فأمر السلطان بإلقاء الحطب حول البرج وإحراقه ، ففعل ذلك ، وأحرق البرج ومن فيه ، وعاد السلطان إلى خيامه ، وغنم المسلمون من المدينة ما لا يحد ولا يحصى .

ولما جن الليل عصفت ريح شديدة . وكان قد بقي من تلك النار التي أحرق بها البرج بقية كثيرة ، فأطارتها الريح ، فاحترقت المدينة بأسرها ، وذلك في رجب سنة ست وخمسين وأربعمائة ، وملك السلطان قلعة حصينة كانت إلى جانب تلك المدينة ، وأخذها . وسار منها إلى ناحية قرس ومدينة آني بالقرب منها ناحيتان يقال لهما سيل ورده . ونورة ، فخرج أهلها مذعنين بالإسلام ، وخربوا البيع ، وبنوا المساجد .

وسار منها إلى مدينة آني فوصل إليها فرآها مدينة حصينة ، شديدة الامتناع ، لا ترام ، ثلاثة أرباعها على نهر أرس ، والربع الآخر نهر عميق شديد الجرية ، لو طرحت فيه الحجارة الكبار لدحاها وحملها ، والطريق إليها على خندق عليه سور من الحجارة الصم ، وهي بلدة كبيرة ، عامرة ، كثيرة الأهل ، فيها ما يزيد على خمسمائة بيعة ، فحصرها وضيق عليها ، إلا أن المسلمين قد أيسوا من فتحها لما رأوا من حصانتها ، فعمل السلطان برجا من خشب ، وشحنه بالمقاتلة . ونصب عليه المنجنيق ، ورماة النشاب ، فكشفوا الروم عن السور ، وتقدم المسلمون إليه لينقبوه ، فأتاهم من لطف الله ما لم يكن في حسابهم ، فانهدم قطعة كبيرة من السور بغير سبب ، فدخلوا المدينة وقتلوا من أهلها ما لا يحصى بحيث إن كثيرا من المسلمين عجزوا عن دخول البلد من كثرة القتلى ، وأسروا نحوا مما قتلوا .

[ ص: 197 ] وسارت البشرى بهذه الفتوح في البلاد ، فسر المسلمون ، وقرئ كتاب الفتح ببغداذ في دار الخلافة ، فبرز خط الخليفة بالثناء على ألب أرسلان والدعاء له .

ورتب السلطان فيها أميرا في عسكر جرار ، وعاد عنها ، وقد راسله ملك الكرج في الهدنة ، فصالحه على أداء الجزية كل سنة ، فقبل ذلك .

ولما رحل السلطان عائدا قصد أصبهان ، ثم سار منها إلى كرمان ، فاستقبله أخوه قاورت بك بن جغري بك داود ، ثم سار منها إلى مرو ، فزوج ابنه ملكشاه بابنة خاقان ، ملك ما وراء النهر ، وزفت إليه في هذا الوقت ، وزوج ابنه أرسلانشاه بابنة صاحب غزنة ، واتحد البيتان البيت السلجوقي ، والبيت المحمودي ، واتفقت الكلمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية